صوم الإنسان بين الروح والجسد
لم تأت الآية الشريفة في قوله تعالى: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ” (سورة البقرة: 183).
إلاّ وهي تخاطب الإنسان بما هو إنسان تشير إليه وهي في هذا الزمان أو ذاك، خلال هذه الشريعة الخاتمة أو ما سبقها فهي تدعو لسنة إلهية في بعد عبادي مغروس مع الشرائع السماوية بكافة كتبها ورسلها وما هذه الآية إلاّ إقرار لتلك الشرائع، من هنا لنا أن نقف وقفة تأمل وتدبر!
لماذا الصيام؟
ولماذا هذه الأيام؟
ولماذا الوجوب؟
قد يحاول البعض أن يجيب من خلال عدة مناحٍ:
البعض ذهب للأبعاد الصحية من أن الصيام هو إعادة لأعضاء الجسد، وتنظيم لعملها، وتجديد لطاقتها بعد أن أفرط البعض وما أكثرهم في استهلاكها، وهذا البعد ليس صحيًّا فقط بل نجده أيضاً عباديًّا إذ نرى أن كثافة الجسد أو رقته لها أثر في العبادة ورونقها أثراً وتأثراً.
والبعض الآخر ذهب إلى أن الله يريد منا أن نحاكي من لا يجدون قوت يومهم فنخاطب ضمائرنا عمليًّا.
فنجوع كجوعهم، ونظمأ كظمئهم، ونعرق بعرقهم، ونشقى بشقائهم، ونتألم بآلامهم، وما أعظم أن يعيش الإنسان مع الإنسان ويشعر به كما يشعر هو بذاته.
وهناك من يرى أن الصوم هو تكليف شرعي يخاطب الطاعة ويمتحنها فيرى مدى صلابة إيماننا بامتثال أوامر الباري عزّ وجل وطاعته.
وهناك من يرى فيه أنّه التمرين على المصائب والجلد في الشدائد، خصوصاً للذين يؤمنون بمبدأ يوم لك ويوم عليك.
من كل هذا وذاك قد نتفق وقد نفترق لكن الكل يدور حول ميدان الحقيقة، وحتى نرفع الحيرة والصراع لترجيح الآراء.
ما عسانا إلاّ أن نتجه لبوابة العصمة ومختلف الملائكة ومعادن العلم:
عندما نطرق كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ونتقلب بين معانيها نجد أننا أمام وقفة بلاغية تحوي بداخلها بريق الإمامة وأصالتها فالصوم يأخذ معناً آخر وتصنيفاً آخر حيث نجد هذه الكلمة التي حوت مفرداتها الكثير الكثير:
(صوم القلب خير من صيام اللسان، وصوم اللسان خير من صيام البطن).
هذه العبارة تستوقف الفكر وتطرق مداخل مدركاته.
فالصوم أصناف ولكل جارحة أو جانحة صوم، وهناك تفاضل وتمايز فلنسأل أنفسنا عندها:
أي صوم نصوم؟
صوم قلب؟
أم صوم لسان؟
أم صوم بطن؟
والفضل يتفاوت بين الثلاث، لكنَّ كلا منها يؤدي للآخر فصيام البطن هو صيام الجسد في شعبة من شعابه الذي يراه أمير المؤمنين (ع) أنه: (الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار خوفاً من العقاب ورغبة في الثواب والأجر).
وهذا يعني أننا أمام صوم هو عتبة نحو الأفضل ودرجة نحو الكمال، وإذا أتقنّا هذا وامتثلناه نهيئ لصوم أفضل مع ممارستنا بالطبع لما هو قبله فعندما نصوم صيام الجسد نهيئ بقابلية عالية وأرضية واسعة لصيام اللسان الذي صنفه أمير المؤمنين عليه السلام والذي يدخل في صيام النفس، حيث إن (صيام النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم وخلو القلب عن جميع أسباب الشر).
بعد هذا الصوم نرقى ونتجه نحو أفق أوسع وفضاء أنقى ألا وهو صوم القلب وهو الذي يسمو بنا إذ إن (صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام).
فالصيام بهذا مراحل ثلاث:
ـ مرحلة الجسد.
ـ مرحلة النفس.
ـ مرحلة القلب.
فطوبى للصائمين.. وسعادة للعابدين.. وهنيئاً للخالدين..
عندها لنا أن نعطف آخر الكلام على أوله لكي نعي أين الإنسان من الصوم؟ وأين الصوم من الإنسان؟
*د. علي العلي
الكاتب إسلام أون لاين