ما هي دلائل القبول في مدرسة الصيام؟
رسول
روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟ للقبول في مدرسة الصيام علامات، كما أن للحرمان فيها علامات كذلك يعرض المؤمن عليها نفسه بصدق وتجرد، ويقوم بنوع من كشف الحساب معها، ليعرف موقعه وترتيبه في قائمة المقبولين أو المحرومين -لا قدر الله-، ويدرك أهو من أهل التهنئة؟ أو من أهل التعزية؟ لأن الله (جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون) كما قال الحسن البصري رحمه الله. ولعل من أهم هذه الدلائل:
1. ارتفاع منسوب المراقبة: فالصيام تدريب عملي على استشعار مراقبة الله عز وجل في كل الأوقات والأحوال، ومن ثم الوصول إلى مرتبة الإحسان التي بينها حديث جبريل: (… والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فإذا ما شعر الصائم أنه ازداد حياء من ربه وخشية له وإقبالا عليه فتلك علامة من علامات قبول الصيام.
2. رفعة المقام عند الله: فالصوم وسيلة مهمة لاكتساب المقام الرفيع عند الله وعلو المكانة لديه سبحانه، ومؤشر حدوث ذلك بالنسبة للعبد الصائم هو توفيقه للطاعة والعمل الصالح وفعل الخيرات والثبات على ذلك والاستمرار فيها كما قال أحد الصالحين: “إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك، فانظر فيما أقامك”، فإن أقامك على الخير والصلاح والطاعة والبر والمعروف، فإن مقامك عنده عزيز، وإن كان غير ذلك فلا مقام يذكر لك عنده، فكلما شعرت بتوفيق الله لك، وتحبيب طاعته إليك، وتثبيتك على ذلك فتلك من علامات القبول لا محالة.
3. التوبة الصادقة والرجوع إلى الله: ففي ظلال رمضان تفتح أبواب التوبة على مصراعيها -وإن كانت مشرعة في كل وقت- وتتنزل رحمات الله على عباده بلا حساب، ومما يوفر الأجواء المناسبة لقبول قوافل التائبين ومساعدتهم على ذلك، بتصفيد الشياطين ومضاعفة أجر الطاعات، فمن وفق للتوبة الصادقة، ورجع إلى ربه نادما على ما فرط منه في حق الله وفي حق نفسه، طامعا في عطف مولاه، عازما على عدم الانتكاس مجددا في متاهات المعصية، فيثبت بذلك اسمه في قائمة عتقاء الله من النار آخر هذا الشهر، فليبشر فذلك دليل قبول وجواز مرور.
4. الحرص على الفرائض والنوافل: فإذا ما أحس الصائم بأنه قد ازداد حرصا على الفرائض في هذا الشهر وداوم على ذلك وسارع في الاستجابة لنداء الرحمن كلما سمعه، إضافة إلى مداومته على النوافل وعدم تضييع أي نوع منها، فإنه على طريق القبول في مدرسة، الصيام بل الوصول إلى الجنة وهي مبتغى كل مؤمن لأن ذلك سيكسبه معية الله له وحفظه ورعايته وتوفيقه كما جاء في الحديث القدسي الصحيح: “.. وما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه”.
5. التصالح مع القرآن: فرمضان شهر القرآن كما قال الله تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ” (البقرة185)، ومن ثم كان إقبال المؤمن الصائم على كتاب الله تلاوة وتدبرا وفهما وعملا، وإحداث نوع من التصالح مع القرآن بعد هجران، والخروج بذلك من زمرة المشتكى منهم من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه في قوله تعالى: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورا” (الفرقان 30)، ومجرد النجاة من هؤلاء هو عين القبول، إضافة إلى خزان الحسنات والدرجات الذي يناله من خلال هذه المصالحة، فالحرف بعشر حسنات والله يضاعف لمن يشاء، وكما قال صلى الله عليه وسلم: “لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”، فإذا كان عدد حروف القرآن حوالي 370 ألف حرف، فإن ختمة واحدة من القرآن في هذا الشهر تساوي ما يقارب أربعة ملايين حسنة والله يضاعف لمن يشاء فما بالك بأكثر من ختمه.
6. الانتصار في معركة اللسان: ومعركة اللسان دليل مهم للصائم على القبول أو الحرمان، فإذا انتصر فيها وتدرب على لجم لسانه في هذا الشهر إلا على خير، فقد أدركه التوفيق والقبول، أما إن أطلق العنان للسانه ذات اليمين وذات الشمال فسوف يورده المهالك لا محالة، وسوف يصل به إلى درجة الإفلاس التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: “أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟” قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: “إِنّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا. وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا. فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ. أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ. ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ” (رواه مسلم)، ومن ثم الانكباب في النار على الوجه والمنخر فقد ورد في الحديث كذلك: “وهل يكب الناس في النار على وجوههم –أو قال: (على مناخرهم)- إلا حصائد ألسنتهم؟!”. رواه الترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (رواه البخاري).
فمن لم يستطع أن ينتصر في معركته مع لسانه، لا يمكنه أن ينتصر في معركته مع شيطانه، فهذه بتلك، وبالضرورة لا يطمع في أن يكون في مقدمة المقبولين في مدرسة رمضان.
7. التخلص من العادات السيئة فكثير من العادات السيئة تأسر العبد، ولا يستطيع الفكاك منها بيسر وسهولة، فيأتي الصيام فيعطيه فرصة سانحة لكي يتحرر منها الواحدة تلو الأخرى، فإذا لم يستطع التخلص من عاداته السيئة في شهر الصيام فذلك دليل على عدم وجود أثر إيجابي للصوم على سلوكه، فلا يمكن لأسير عادة سيئة وقد تكون محرمة، أن يحلق في درجات القبول، فمن دلائل القبول الحرية إلا لله عز وجل.
8. الاهتمام بقضايا المسلمين: فكلما ارتفعت درجة الاهتمام بقضايا المسلمين لدى الصائم وازداد شعوره بالمحرومين من حوله وخفق قلبه كلما رأى أو سمع بمأساة تصيب الأمة والمجتمع، ولم يكتف بالشعور القلبي وإنما تعداه إلى الجانب العملي وساهم بما يستطيع في تفريج كروب المكروبين وإغاثة الملهوفين وإغناء المحرومين، فذلك مؤشر صحة ودليل حياة وأمارة قبول، أما من لم تحركه مآسي المسلمين، وكأن الأمر لا يعنيه، فليراجع نفسه وليستدرك ذلك وإلا فليعلم أن الباب سيغلق أمامه إن ظل كذلك.
9. إدراك خيرات ليلة القدر: هذه الليلة التي أكرم الله بها هذه الأمة من حرم خيرها وفضلها فقد حرم الخير كله، ومن وفق وأدركته رحمات الله فيها فقد رزق القبول من أوسع أبوابه قال صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن شهر رمضان: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم” (رواه ابن ماجة)، وقال صلى الله عليه وسلم: “ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” رواه مسلم.
فعلى الراغب في القبول أن يحرص على التماسها في العشر الأواخر، وليشمر على ساعد الجد وليتعرض لنفحات الله فيها حتى يكتب من المقبولين.
10. الثبات على الطاعة بعد رمضان: وهو خاتمة الدلائل على القبول من عدمه، فإن ثبت الصائم على الطاعة والعبادة والعمل الصالح وفعل الخيرات بعد رمضان وحافظ على ذلك في بقية الشهور، وظهرت ثمرات الصيام ندية على التزامه وسلوكه وأخلاقه، فذلك أثر القبول، أما إذا انتكس ورجع إلى حالته التي كان عليها قبل رمضان أو أسوأ، وصاح مع القائل: “رمضان ولى هاتها يا ساقي”.. فتلك علامة حرمان لا تخطئ والعياذ بالله.
لقد ذكرنا بعض دلائل ومعايير القبول في مدرسة الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وليعرض كل منا نفسه عليها بصدق، ويحدد النسبة والمرتبة التي هو فيها وليحمد الله على كل دليل وفق إليه، وليستدرك في كل دليل حرم منه، ما دامت المدرسة مفتحة الأبواب، وليكن في نهاية السباق مع كوكبة الفرسان الفائزة بجوائز هذا الشهر الكريم عملاً بقوله تعالى: “وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ” (الروم 4و5).
موقع رسول