الصحة والطب البديل

الأجنة.. بين العلم والقرآن (2)

العلقة في اليوم 23

نستكمل الحديث الذي كنا قد بدأناه عن الأطوار الجنينية كما ذكرها البيان القرآني والحقائق العلمية الثابتة في كل طور من الأطوار.. وكنا قد تناولنا في الموضوع السابق أول هذه الأطوار وهو طور النطفة Sperm، والآن نتناول الأطوار التالية:

الطور الثاني: العلقة

الحقائق العلمية الثابتة:

يبدأ طور العلقة في اليوم 15 وينتهي في اليوم 23 أو 24 حيث يتكامل بالتدريج ليبدو الجنين على شكل الدودة العلقة التي تعيش في الماء، ويتعلق في جدار الرحم بحبل السرة، وتتكون الدماء داخل الأوعية الدموية على شكل جزر مغلقة تجعل الدم غير متحرك في الأوعية الدموية، معطية إياه مظهر الدم المتجمد.

وبالرغم من أن طبيعة الجسم البشريّ هي أن يطرد أيّ جسم خارجي فإن الرحم لا يرفض العلقة المنزرعة في جداره، على الرغم من أن نصف مكوناتها ومورثاتها هو من مصدر خارجي (الأب) وهذا مرده حسب بعض التفسيرات أن منطقة خلايا Syncitia بالعلقة لا يوجد بها مولدات ضد Antigens .

يجدر بالذكر هنا أن الشريط الأولي Primitive Streak هو أول ما يُخلق في الجنين في اليوم 14 أو 15 ثم تظهر فيه العقدة الأولية Primitive Node ومن هذا الشريط تتكون الخلايا الأم Stem cells ومصادر الأنسجة الرئيسية Mesoderm, Ectoderm, Endoderm التي سوف تشكل أعضاء وأنسجة الجسم المختلفة ، وفي نهاية الأسبوع 3 يضمر الشريط الأولي ويتوضع ما يتبقى منه في المنطقة العجزية – العصعصية Sacrococcygeal region بنهاية ذيل العمود الفقري مبقياً على بقايا للخلايا الأم في هذه المنطقة ، حتى إن بعض أورام المنطقة العصعصية -تسمى الورم متعدد الأنسجة أو الورم العجائبي Teratroma- يمكنها أن تحوي أنسجة مختلفة (عضلات، جلدا، غضروفا، عظما، وأحيانا أسنانا أيضا) بخلاف الأورام التي تنشأ في مناطق أخرى، والتي تكون على حساب نسيج واحد محدد.

تأملات من القرآن والسنة:

منظر ترسيمي للجنين و هو يبدو على شكل دودة العلق

تستغرق عملية التحول من نطفة إلى علقة أكثر من 10 أيام حتى تلتصق النطفة الأمشاج (البييضة الملقحة) بالمشيمة البدائية بواسطة ساق موصلة تصبح فيما بعد الحبل السري؛ ولهذا استعمل البيان القرآني حرف العطف (ثم) في الآية الكريمة “ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً” (سورة المؤمنون: 14) الذي يفيد التتابع مع التراخي.
والعلقة لغوياً لها معان عدة:
1- الدودة العلقة (Leech) التي تعيش في البرك وتمتص دماء الكائنات الأخرى.
2- شيء متعلق بغيره.
3- الدم المتخثر أو المتجمد.
وهذه المعاني جميعاً منطبقة تماماً على واقع الجنين البشري بعد انغراسه في جدار الرحم؛ فهو يبدو على شكل دودة العلق (Leech) وهو متعلق أيضاً بجدار الرحم عن طريق حبل السرة ، وتنشأ بداخله الأوعية الدموية على شكل شبكة جزر مغلقة معطية إياه مظهر علقة الدم المتجمد.

ثم يتم التحول سريعاً من علقة إلى مضغة خلال يومين (من اليوم 24 إلى اليوم 26)؛ لهذا وصف القرآن هذا التحول السريع باستخدام حرف العطف (ف) الذي يفيد التتابع السريع للأحداث “فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً” (سورة المؤمنون14).. إذن حتى استعمال حروف العطف المختلفة كانت له دلالات بيانية إعجازية عكست اختلاف المراحل الجنينية.

طور العلقة هو الطور الثاني إذن من أطوار المراحل الجنينية، وقد ذكر في القرآن في مواضع عديدة ، قال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} (القيامة: 37-39)، وقال في سورة سميت بسورة “العلق”: “خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ” (العلق 2).

وعودة إلى موضوع الشريط الأولي الذي هو أول ما يُخلق في الجنين ومن هذا الشريط تتكون الخلايا الأم وأعضاء وأنسجة الجسم المختلفة، وفي نهاية الأسبوع 3 يضمر الشريط الأولي ويتوضع ما يتبقى منه في المنطقة العصعصية بنهاية ذيل العمود الفقري، مبقياً على بقايا للخلايا الأم في هذه المنطقة، ويأتي هذا مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى عنه أبو هريرة في مسند أحمد: “كل ابن آدم يبلى ويأكله التراب إلاّ عجب الذنب، منه خُلق وفيه يُركب” فالخلايا التي تشكل أنسجة وأعضاء الجسم تتوضع في “عجب الذنب” أي العظم العصعصي، ومنها يخلق الإنسان، صدق رسول الله !

الطور الثالث: المضغة

المضغة في اليوم 28

الحقائق العلمية الثابتة:

يتحول الجنين من طور العلقة إلى بداية طور المضغة ابتداءً من اليوم 24 إلى اليوم 26، وهي فترة وجيزة إذا ما قورنت بفترة تحول النطفة إلى علقة.

يبدأ هذا الطور بظهور الكتل البدنية (Somites) في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين في أعلى اللوح الجنيني، ثم يتوالى ظهور هذه الكتل بالتدريج في مؤخرة الجنين. وفي اليوم الثامن والعشرين يتكون الجنين من عدة فلقات تظهر بينها أخاديد؛ وهو ما يجعل شكل الجنين شبيهاً بالعلكة الممضوغة، ويدور الجنين ويتقلب في جوف الرحم خلال هذا الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع السادس.
ويجدر بالذكر أن مرحلة المضغة تبدأ بطور يتميز بنمو وزيادة في حجم الخلايا بأعداد كبيرة أي تكون المضغة كقطعة من اللحم لا تركيب مميزا لها، وبعد أيام قليلة يبدأ الطور الثاني وهو طور التشكيل (التخلق) حيث يبدأ ظهور بعض الأعضاء، كالعينين واللسان (في الأسبوع 4) والشفتين (الأسبوع 5)، ولكن لا تتضح المعالم إلاّ في نهاية الأسبوع 8، وتظهر نتوءات الأطراف (اليدين والساقين) في هذا الطور.

تأملات من القرآن والسنة:

لغوياً تعني “المضغة” المادة التي لاكتها الأسنان ومضغتها، وهي تعطي وصفاً دقيقاً لواقع هذه المرحلة الجنينية؛ حيث يصبح شكل الجنين مثل المادة الممضوغة التي يتغير شكلها باستمرار، وحيث تظهر فلقات الكتل البدنية (Somites) في الجنين، واختلافها يشبه شكل “طبع الأسنان” على اللقمة, كذلك يدور الجنين ويتقلب في جوف الرحم كتقلب القطعة الممضوغة في الفم.

يأتي طور المضغة بعد طور العلقة، وهذا الترتيب يطابق ما ورد في الآية الكريمة: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} (المؤمنون: 14).
من صفات المضغة أنها تستطيل ويتغير شكلها عند مضغها، وهذا ما يحصل تماماً للجنين في هذه المرحلة. وكما ذكرنا فللمضغة طور باكر قبل أن تشكّل وتخلق الأعضاء، وطور آخر بعد بدء تشكل الأعضاء كما قال البيان القرآني: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى” ( الحج :5)، إذن هناك طوران للمضغة: المضغة غير المخلقة والمضغة المخلقة، وينتهي هذا الطور بشقيه في الأسبوع 6 (أي بعد 40 يوما)، وقد أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها”.
ولفتة أخرى أيضاً، وهي أن بعض الأعضاء تتخلق قبل غيرها؛ فالعينان واللسان (الأسبوع 4) تتخلق قبل الشفتين (الأسبوع 5)، والبيان القرآني يقدم العينين واللسان على الشفتين: “أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ” (سورة البلد: 8-9).

الطور الرابع: العظام

الجنين في اليوم 42 ا الجنين في اليوم 44 

الحقائق العلمية الثابتة:

خلال الأسبوع 6 يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم، ولكن لا ترى في الجنين ملامح الصورة الآدمية حتى بداية الأسبوع 7؛ حيث يأخذ شكل الجنين شكل الهيكل العظمي. ويتم الانتقال من شكل المضغة إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة خلال نهاية الأسبوع 6 وبداية الأسبوع 7، ويتميز هذا الطور بظهور الهيكل العظمي الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي.

تأملات من القرآن والسنة:

إن مصطلح العظام الذي أطلقه القرآن الكريم على هذا الطور هو المصطلح الذي يعبر عن هذه المرحلة من حياة الجنين تعبيرًا دقيقًا يشمل المظهر الخارجي، وهو أهم تغيير في البناء الداخلي وما يصاحبه من علاقات جديدة بين أجزاء الجسم واستواء في مظهر الجنين، ويتميز بوضوح عن طور المضغة الذي قبله، قال تعالى: “فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ” (المؤمنون: 14).

وتكَوُّن العظام هو أبرز تكوين في هذا الطور؛ حيث يتم الانتقال من شكل المضغة الذي لا ترى فيه ملامح الصورة الآدمية إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز أياما قليلة خلال نهاية الأسبوع 6 (ولهذا استعمل حرف العطف “ف” الذي يفيد التتابع السريع)، وهذا الهيكل العظمي هو الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي بعد أن يكسى باللحم (العضلات) وتظهر العينان والشفتان والأنف، ويكون الرأس قد تمايز عن الجذع والأطراف، وهذا مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا مرّ بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا ربّ أذكر أم أنثى؟” صحيح مسـلم. بعد أن يمر على النطفة 42 ليلة (6 أسابيع) يبدأ التصوير فيها لأخذ الشكل الآدمي بظهور الهيكل العظمي الغضروفي، ثم تبدأ الأعضاء التناسلية الظاهرة بالظهور فيما بعد (الأسبوع 10) .
وفي الأسبوع السابع تبدأ الصورة الآدمية في الوضوح؛ نظراً لبداية انتشار الهيكل العظمي، فيمثل هذا الأسبوع (ما بين اليوم 40 و45) الحد الفاصل ما بين المضغة والشكل الإنساني.

الطور التالي هو طور العضلات.. انتظره في الحلقة القادمة

اقرأ أيضًا:

* طبيب وعضو مؤسس للجمعية الدولية لتاريخ الطب الإسلامي

الكاتب arabic_user

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى