الأسلام حول العالم

حجاب المرأة: الحيثيات الحضارية والدلالات النصية

أولا: الحجاب: الحيثيات والأبعاد:

ثانيا: الحجاب: النص والدلالات:

أولا: الحجاب: الحيثيات والأبعاد:

1 – السياق الآني والتاريخي:

لقد غدا الإسلام الموضوع الأول بالنسبة للغرب والعالم، فقد قادته المتغيرات الدولية إلى واجهة الأحداث، ولا سيما مع دخول الدين كعنصر جديد يوجه العلاقة بين أمم العالم، وبروز مفردات إطلاقية كالخير والعدل المطلق في الخطاب السياسي الأمريكي وضدها المطلق أيضا كالشر والإرهاب، ولئن كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تأريخا مفصليا لعلاقة الغرب بالإسلام، فإن تراكما تاريخيا من العُقد والمشكلات -المسكوت عنها مؤقتا- كانت لا تزال تتفاقم ولما تجد حلا، فما تسميه أمريكا بالإرهاب وأسبابه، وما يحمله قادتها من رؤى دينية وحضارية متطرفة، هو العنوان الأبرز للعلاقة بين أمريكا والإسلام.

وكذلك تعاني أوروبا القريبة من مشكلات أبعد تاريخيا وأكثر آنية من جهة المد والجزر الجغرافي بين العالم الإسلامي وأوروبا تاريخيا، والمد الديموغرافي الإسلامي في أوروبا الذي قد يهدد بنية المركزية الغربية التي تحكم التوجه المستقبلي لأوروبا، فبدأت تثار قضايا الجاليات الإسلامية في الغرب بعد أن غدت نخبها تحتل مكانة متميزة في مجتمعاتها، وتنامي هذا الدور سيغير من الخطط والتوجهات المرسومة لأوروبا المستقبلية، وعندما تُهَدد معالم الهوية الأوروبية ولو بطريقة ديمقراطية فستكون الديمقراطية بمنأى عن أن تكون مرجعا ومحتكما كما هو الشأن عندما يتعلق الأمر بالمصالح الخارجية.

لئن كان يمكننا ضمن هذا السياق تنزيل قضية الحجاب وقانون حظره في فرنسا واحتمالية نفس التوجه لدى دول أوروبية أخرى، فإن قضية الحجاب تعتبر مثارة في العالم الإسلامي قبل ذلك وبفترات تاريخية ممتدة، واقترنت بأسماء شخصيات ناضلت في سبيل ما كان يعرف بتحرير المرأة، وأسماء المصري: قاسم أمين، والتونسي: الطاهر الحداد، تعتبر الأبرز في هذا المجال، واستمرت القضية مثارة على مدار القرن العشرين وإلى اليوم، يحكمها طبيعة التوجه الفكري المسيطر في الساحة الثقافية الإسلامية، فناضلت ضده التيارات النسوية واليسارية العربية -ولا تزال- واعتبرته رمزًا للتخلف واضطهاد المرأة، في حين ناضلت من أجله مختلف التيارات الإسلامية واعتبرته رمزًا للصحوة الإسلامية، فكان الحجاب كظاهرة في المجتمع مقياسا للمد والجزر بين هذه التيارات، وقد يختلف الأمر عندما تكون السلطة طرفا متدخلا في هذا السجال (كما هو الحال في تونس وبعض الدول الخليجية والإسلامية) فلا يكون معبِّرًا دقيقًا عن توجهات المجتمع، وحيث برز فيدل على توجه نوعي وحاد معه أو ضده.

هذا الحضور داخل المجتمع الإسلامي لقضية الحجاب لا يحمل نفس الدلالات في مختلف المراحل التاريخية، فلا يمكن اعتبار مَن أثار قضية الحجاب من دعاة تحرير المرأة الأوائل كمن يثيرها اليوم؛ فقضية الحجاب آنذاك كانت تعبر عن رفض لاضطهاد المرأة وعزلتها وحرمانها من التعليم بحجة الحجاب؛ فقراءة ما كتبه الطاهر الحداد مثلا عن الحجاب يدلنا على أن المشكلة لديه في حجب المرأة عن الحياة والمجتمع أكثر منها قضية ثياب، وكذلك الأمر عندما يتحدث عن السفور يتحدث عن سَفر المرأة عن وجهها،(1)ومن ثم فالسياق الذي برزت فيها آراء الحداد وغيره يختلف عن السياق الثقافي اليوم؛ فشكل الحجاب اختلف، ودور المرأة اختلف، سواء كانت ملتزمة بالحجاب أو سافرة.

إنه يمكننا القول: لو أن الطاهر الحداد وأمثاله عاشوا في هذا العصر ربما كان لهم رأي مختلف في قضية الحجاب؛ نظرًا لفك الارتباط بينه وبين تخلف المرأة، فلم يعد جهل المرأة وأميتها وعدم اشتراكها في الدورة الاقتصادية والسياسية مرتبطًا بارتدائها للحجاب، كما أن هذا لا ينفي أن بعض الرؤى التقليدية للحجاب وشكله تحول بين مشاركة المرأة في المجتمع وحصولها على كامل حقوقها، كما أن شكل الحجاب لدى البعض يأخذ وظيفة معينة ترتبط بولاء فكري أو سياسي معين؛ وهو ما يجعله لصيقًا بهوية معينة ليست بالضرورة دينية باعتبار أن الحجاب ببعده الديني يتحقق بحد أدنى من غير تقيد بشكل معين.

2 – ما وراء الحجاب:

ما أردناه من هذا التبيان لأبعاد قضية الحجاب هو نقض التنافي الذي يلح عليه البعض بين الحجاب وتحرر المرأة، ونقض التلازم بين الحجاب والتمييز في المجتمع؛ فقد تكون المرأة ملتزمة بالحجاب وتمارس دورها وتتمكن من حقوقها في المجتمع أكثر من المرأة التي تخلت عن الحجاب دون وعي بحقوقها أو ممارستها لدورها، وبناء على ذلك فإن الحملة ضد الحجاب من قبل التيارات النسوية والنخب الثقافية ترتبط برؤى فكرية حادة منه أو من الدين أكثر منها سعيا لمساعدة المرأة على نيل كامل حقوقها، بل إن تلك المواقف تبعد المرأة عن نيل تلك الحقوق؛ إذ تجعل من قضية ترتبط بالشكل جوهرًا يحول بين تواصل عموم المحجبات والمؤسسات التي تساعد المرأة على نيل حقوقها، ويتأكد فشل التيارات النسوية واليسارية في تطرفها الفكري هذا من خلال ظاهرة الردة إلى الحجاب من قبل فتيات تخلين عنه في مجتمعات قطعت أشواطًا في تحرير المرأة وتحديث التعليم والقطيعة مع الرؤى التي تدعم التوجه نحو الحجاب، ولئن عزي الأمر إلى وسائل الاتصال الحديثة وما يبثه فيها الدعاة من مواعظ فسيكون الأمر بذلك مؤشرًا أشد خطرًا، وهو هشاشة البناء الفكري الذي تم على أساسه رفض الحجاب، ومن وراء ذلك هشاشة التحديث وتحرير المرأة الذي يعتبر شكل المرأة ومظهرها عنوانه والدليل عليه.

لئن كان الجدل حول قضية الحجاب في المجتمعات الإسلامية يرتبط -فيما نرى- بمخلفات الصراع الأيديولوجي الذي بدأ يشتد في هذا القرن، وهو يختلف عما كان عليه في بدايات الدعوة إلى تحرير المرأة؛ فإن الجدل حوله في المجتمعات الغربية يحمل أبعادًا أخرى ترتبط بالهوية بشكل أساسي، ولا أخص هنا هوية المحجبات إنما هوية المجتمع الغربي بشكل عام، فدولة كفرنسا -تحكمها علمانية متطرفة، وتسهم بدور مركزي في قيادة الاتحاد الأوروبي- لا يمكن أن يكون موقفها من الحجاب بريئا ما دامت تراه يهدد المركزية الأوروبية التي تعتبر عماد الهوية الأوروبية والهوية الفرنسية بالخصوص، والمشكلة فيما يخص الحجاب كونه يحيل إلى أبعاد أخرى ترتبط بطبيعة تصور شريحة لا بأس بها من المجتمع الفرنسي (أعني المسلمين) لنمط الحياة الذي يختارونه، وما قد يؤول إليه هذا الاختيار من تأثير مستقبلي على الاختيارات الفرنسية والأوروبية بشكل عام، هذا إذا استبعدنا الخلفيات التاريخية وربما العنصرية أو الدينية المقنعة التي تجثم وراء قانون الحجاب وغيره من الإجراءات التي تحد من طموحات المسلمين.

لقد أثار قانون حظر الحجاب في فرنسا الجدل؛ نظرا لدور فرنسا عبر ثورتها في نشر أفكار الحرية وحقوق الإنسان، فقد أخذ الموضوع أبعادا جديدة في الجدل حول تعارضه مع حقوق الإنسان والحريات التي تقر حق الإنسان في التدين، والحجاب في نظر من ترتديه يمثل واجبا دينيا في الأساس، وهل كونه يعبر عن هوية إسلامية بشكل تبعي يصادر الحق فيه كالتزام ديني؟ وهل فرنسا كدولة ومجتمع غير إسلامي لها خصوصية في التعامل مع قضايا إسلامية تخص بعض الأفراد في مجتمعها؟ وإلى أي مدى يصادر إقرار الحجاب أو رفضه قيم الديمقراطية والمساواة في المجتمع الفرنسي أو غيره؟ أسئلة كثيرة أثيرت حول القانون الفرنسي وكثر حولها الجدل والنقاش وأخذ طابعا ميدانيا يشبه النضال القديم من أجل تحرير المرأة.

ما يلفت الانتباه مما ثار من الجدل حول الحجاب أن الحجاب يأخذ أولوية بين قضايا الدين التي تثير الجدل، فمن يتحدثون باسم المرجعيات الدينية يعتبرونه على قائمة الأولويات والفرائض ويعتبرونه مؤشرًا على التدين، وفي الأوساط الاجتماعية كذلك يحتل مكانة تقترب من الشرف ويمثل تعبيرًا عن التزام بأسس الأسرة والحي، وفي هذا الإطار تكون خلفيته الحقيقية اجتماعية محضة وإن أخذ لبوس الدين، فقد تكون غير المحجبات ملتزمات بتعاليم الدين أكثر من المتحجبات ضمن هذا السياق الاجتماعي، لكن اللافت دعم هذا النمط من التحجب واعتباره مؤشرًا للتدين.

والسؤال الأهم هنا يعم قضية الحجاب إلى قضايا أخرى يتداخل فيها الاجتماعي بالديني، وربما يطغى الاجتماعي باسم الديني، فيحرف الدين بعنوانه، ويحمل ما لا تحتمله تعاليمه بل تناقضه أحيانا، وهذه الظاهرة نجدها في قضايا عديدة كجرائم الشرف والختان وبعض الشعائر الدينية كالأضحية في المجتمعات المغاربية.

وهذا يحتم العودة إلى الدين وفهم نصوصه ومقاصده وتقييم تنزله في المجتمع، وذلك لا يمكن أن يكون بالقطيعة معه باسم الحداثة؛ لأن ذلك -فضلا عن أنه موقف مسبق- سيؤول إلى قطيعة مع الواقع والمجتمع الذي يزداد فيه التدين انتشارًا وبصيغه التقليدية، كما لا يمكن أن يكون بقراءة تاريخية مطلقة تستبعد إمكانية ارتباط أي من هذه المظاهر بالواقع المعاصر، أو تفترض تنافيها مع قيم حديثة يُدَّعَى حتميتها وكونيتها وتنسيب النصوص الدينية لصالحها، هذه المنهجيات في مقاربة قضايا ذات صلة بالدين نزعم أنها ستؤول إلى العقم؛ لأنها لن تغير من الواقع شيئًا؛ لأنها تستبعد فهمه من داخله ومعرفة المكون الأساسي له، أعني آلية تلقي الحكم الديني وتبنيه ومصدر قداسته لدى المسلم؛ فتصحيح التصورات الدينية التي تتداخل مع التصورات الاجتماعية لا يمكن أن تكون فوقية أو بتأويل تعسفي لا يستقيم وآليات من يتبنى تلك الرؤى.

من هذا المنطلق فإن الجزء الثاني من محاولتنا وهو المقاربة النصية لقضية الحجاب سيركز على النص المؤسس -أعني القرآن الكريم- باعتباره المصدر الأساسي لحكم الحجاب، وسنستبعد القراءة التاريخية لنصوصه؛ نظرًا لأن تلك القراءة تستبعد إطلاقية النص القرآني ودوره في الحياة المعاصرة، كما نستبعد تأويله بحيثيات الأخبار التاريخية المتداولة حول الموضوع؛ نظرًا لإشكالية موثوقيتها بالمقارنة مع القرآن، ولكونها تتعارض ودلالات النصوص القرآنية ومقاصد التشريع الإسلامي عمومًا، وسنعتمد بشكل أساسي على قراءة بنية النصوص القرآنية ذات الصلة، واكتشاف دلالاتها من خلال سياقاتها والألفاظ الحافة بها وما تدل عليه من مقاصد.

ثانيًا: الحجاب: النص والدلالات:

1 – النصوص القرآنية ذات الصلة ومفاتيحها:

إذا بحثنا عن مفردة حجاب في القرآن فسنجدها تتكرر ثماني مرات،(2) لكن أيا منها لا يحمل دلالة تتعلق بحجاب المرأة بمعناه المعاصر؛ فهي تحمل دلالة حسية أو معنوية على الحجب بمعنى الفصل والستر والحجز، واستعملت في سياقات مواضيع مختلفة، وآية الأحزاب هي الوحيدة ذات الصلة بموضوع قريب وهو أدب التعامل مع نساء النبي أمهات المؤمنين.(3)

لكن حكم الحجاب يتأسس في الإسلام على آيات وردت في سورتي النور والأحزاب المدنيتين،وهذه الآيات هي:

* [ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] (النور: 30-31).

* [ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ] (النور:60).

* [ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ] (الأحزاب: 33).

* [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا ] (الأحزاب: 53).

* [ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ] (الأحزاب: 59).

إن قراءة الآيات تقود إلى مفردات وعبارات يمكن اعتبارها مفتاحية في فهم الحكم الذي يتأسس على هذه النصوص حول الحجاب، ويمكن تحديدها في العناصر التالية:

  •  غض البصر.
  •  حفظ الفروج.
  •  ضبط الزينة وما يظهر منها وما لا يظهر.
  •  الاستعانة بالخمار والجلباب للستر.
  •  عدم تعمد الحركات اللافتة للنظر.
  •  التخفيف عن كبيرات السن.
  •  النهي عن التبرج.

هذه العناصر التي استخلصناها من الآيات التي نعتبرها مؤشرات تدل على الحكم الدالة عليه، ومقاصده ينبغي أن تؤخذ متكاملة، وللدخول في ضبط الدلالات النصية سنقف عند الدلالات اللغوية المتعلقة ببعض المفردات:

الجلباب: ما يتغطى به من ثوب وغيره، وقد يطلق على القميص والخمار والرداء والإزار، وهو ثوب واسع للمرأة أوسع من الخمار ودون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها وظهرها، أو ما تغطي به ثيابها من فوق، وتجلببت المرأة: لبست الجلباب، وأصل مادة جلبب يفيد التجمع والإحاطة.(4)

الخمار: أصل الخمر: ستر الشيء، ويقال لما يستر به: خمار، لكن الخمار صار في التعارف اسمًا لما تغطي به المرأة رأسها، وجمعه خُمر، وسمي الخمر خمرًا لأنه يغطي العقل، ويقال لكل ما يستر من شجر أو غيره، فأصل مادة خمر الستر والتغطية.(5)

الجيب: كل شيء قطع وسطه فهو مجيوب ومجوب، ومنه: جيب القميص طوقه، وهو ما ينفتح على النحر، والجوب قطعك الشيء كما يجاب الجيب.(6)

التبرج: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها وما يستدعى به شهوة الرجل، وكل ظاهر مرتفع فقد برج، وقيل: إنهن كن يتكسرن في مشيهن ويتبخترن، وإذا أبدت المرأة محاسن جيدها ووجهها قيل تبرجت، وأصل التبرج من الثوب المبرج: وهو الذي صورت عليه بروج، واعتبر حسنه، فقيل تبرجت المرأة، أي: تشبهت به في إظهار المحاسن.(7)

الضرب: وضع الشيء على الشيء.(8)

الإدناء: الدنو القرب بالذات أو الحكم، ويستعمل في الزمان والمكان والمنزلة، ودانيت بين الأمرين وأدنيت أحدهما من الآخر: قاربت بينهما، ومنه أدنت المرأة ثوبها عليها إذا أرخته وتسترت به.(9)

هذه المعطيات اللغوية سنستفيد من أصولها في فهم النصوص القرآنية ذات الصلة.

2 – معطيات المدونات التفسيرية ونقدها:

ثمة قضايا أساسية تفسر عنها المدونات، ولها أهمية في فهم النص، وسنركز على ما يباح كشفه من الزينة، وضابط ذلك، والتفريق بين الأحرار والإماء في الحجاب:

* لقد تعددت أقوال المفسرين في ضبط الزينة التي أبيح للمرأة إظهارها لكل الناس، وذلك في إطار تفسيرهم للاستثناء من النهي القرآني عن إبداء الزينة، فاعتبرها بعضهم الثياب، وفسرها أغلبهم بالوجه والكفين وما يرتبط بهما من زينة، وزاد بعضهم نصف الذراع، وذكر ابن عاشور قولا يعتبر الشعر من الزينة الظاهرة، والتعبير عن الزينة يشمل مواضعها، أو أن الموضع أبيح من باب أولى.(10)

* استند المفسرون في ضبط الزينة المباح إظهارها إلى علة تبيح كشفها، ففي سترها مشقة وحرج، ورخص لهم فيما اعتيد كشفه وأدت الضرورة إلى إظهاره؛ إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة الحركة أو إصلاح شأن ما، أو ما يشق على المرأة ستره، أو جرت العادة والجبلة والفطرة على ظهوره والأصل فيه الظهور، ويكون المعنى أن ما ظهر منها من غير إظهار.(11)

* ذهبت معظم التفاسير إلى اعتبار الحجاب خاصا بالنساء المؤمنات الحرائر، واستندوا في ذلك إلى أخبار مروية بأن النساء كن يتعرضن للأذى من قبل السفهاء لعدم معرفة الإماء من الحرائر، فأمرت النساء الحرائر بالحجاب لئلا يؤذين ولا يشتبهن على السفهاء بالإماء، وروي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء ويقول: “اكشفن رءوسكن ولا تتشبهن بالحرائر”، ويذكر ابن تيمية أن عادة المؤمنين كانت أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، وعليه فُسر “أدنى أن يعرفن” أي: حتى لا يختلطن بالإماء، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي، فجعل الستر فرقا يعرف به الحرائر من الإماء.(12)

هذه المعطيات التي لخصناها من التفاسير تقودنا إلى مؤشرات ينبغي إدراكها في فهم رؤيتهم لموضوع الحجاب، من هذه الملاحظات التي سجلناها:

1. تفسيرهم للزينة الظاهرة وتعليلها يؤكد أن لا علاقة للحجاب بحجب المرأة عن ممارسة دورها في المجتمع وقيامها بشئونها، كما أن الحجاب منضبط بما لا يترتب عليه مشقة أو عسر في حركة المرأة وقيامها بواجباتها، وهذا إن دل على شيء فيدل على أن التحولات التاريخية التي طرأت على مفهوم الحجاب وشكله وما انعكس منه على دور المرأة لا يستند إلى المفهوم الفقهي للحجاب إنما يستند إلى معطيات أخرى.

2. ربطهم بين الزينة الظاهرة والعادة: يثير التساؤل حول طبيعة نظرتهم لدور العرف في ضبط ما يظهر من الزينة، وأيهما يحكم الآخر في هذا المجال: النص أم العرف؟ فالنص جاء عاما لم يحدد ما ظهر منها، وجاء تحديده تاريخيا وعبر نصوص السنة على اختلاف واسع في ضبطها، وهل هذا العرف التاريخي يحمل في هذا المجال بعدا تشريعيا أم يرتبط بالبيئة التاريخية ويبقى لكل عصر عرفه الذي يضبط ما ظهر منها كما ذهب إلى ذلك مراد هوفمان في كتاب “الإسلام كبديل”؟ الواضح من توجهات المفسرين أن الضابط هو الضرورة والحاجة، ولا يمكن في هذا المجال اعتبار عرف عصر النبوة لأنه قبل نزول الآية لم يكن هناك حجاب، فدلالة ما ظهر منها ينبغي أن تحدد من خلال سياق النص.

3. المثير للاستغراب في تأويلات المفسرين هو تعليل تشريع الحجاب الذي يربطه بالتفريق بين الإماء والحرائر لتحصين الحرائر من إيذاء السفهاء، وهو تعليل يعود على تشريع الحجاب بالنقض مع انتهاء عهد الرق، وإن كان هذا لا يقول به المفسرون، والتساؤل يدور حول دليل هذا التفريق الذي لا يستند إلى أي قرينة نصية، سوى أخبار ومرويات وعادات ذكرت في كتب التاريخ، والأهم من ذلك أن هذا التفريق في تشريع الحجاب يتناقض مع مقاصد الحجاب التي تشير إليها الآيات كما سنبينها، ومع مقاصد الشريعة الإسلامية عموما، فهل تشوف الشرع إلى تحرير الرقيق بعد الرقي بحقوقه إلى أعلى قدر ممكن ريثما يتمكن من حرية تسمح بهذا التفريق، ألم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المساواة التامة بين السيد ومولاه في اللباس والطعام والكلام، فضلا عن الحقوق الأخرى، هل يمكن بعد هذا أن يكون التعرض للإماء من قبل السفهاء أمرا مقبولا في عصر النبي وتصان عنه الحرائر؟ هل يمكن اعتبار التحرش الجنسي بغير النساء الحرائر أمرا يمكن غض الطرف عنه ونعتبر مآل دلالة النص تقره؟

إن مقاصد الإسلام تجزم باستبعاد هذا الفهم لتعليل تشريع الحجاب في القرآن، ولا يمكن للأخبار التاريخية الموهومة أن تفسر النص القرآني بهذه الطريقة، ولا يمكن فهم هذا التعليل إلا في ضوء انحراف التاريخ الإسلامي عن رسالة الإسلام لا سيما فيما يخص حرية الإنسان وتحريره من العبودية التي كان ينبغي أن تنقرض منذ القرن الهجري الأول في ضوء ما سنه الإسلام من تشريعات للقضاء على ظاهرة الرق.

3 – مقاصد تشريع الحجاب في القرآن:

إن ما أوردناه على فهم المفسرين للحجاب يجعل التمييز أمرا مستبعدا، فلا بد من البحث عن خيط في الآيات يقود إلى الهدف من تشريعه، وهذا الخيط يمكننا تلمسه من خلال مفردات يمكن اعتبارها مفتاحية في هذا المجال:

فحديث القرآن في سياق آيات الحجاب عن غض البصر وحفظ الفرج يشير إلى أمر يتعلق بغريزة فطرية لدى الإنسان لا بد من الانتباه إلى ضبطها ومراعاتها وهذه مسئولية مشتركة بين الذكر والأنثى؛ لذلك خُص كل منهم بخطاب يؤكد هذا الواجب الأخلاقي، وازداد التكليف المتعلق بالمرأة بضبط خاص وهو كونها تتميز عن الرجل بجمالية في الخلق، فالحجاب من خلال هذا السياق لا ينفصل عن العفة والانضباط الأخلاقي الذي أمر الرجل والمرأة بمراعاته والاهتمام به.

ما يؤكد أن تشريع الحجاب يرتبط بالعفة الأخلاقية بشكل مباشر ما ورد في سياقات الآيات حول ما يُخفى من الزينة وما يظهر منها، ومن تظهر له كامل الزينة أو بعضها، وما ورد في الآيات الموالية لتلك الآيات من الحديث عن آداب الاستئذان والعلاقات الأسرية، وتخفيف التكليف فيما يتعلق بالنساء المسنات، أو فيما يخص غير الطبيعي من الرجال، والنهي عن تعمد الحركات اللافتة للنظر، والنهي عن التبرج وتعمد إظهار الزينة غير الطبيعية واللافتة للنظر.

لقد ضبط القرآن آلية إخفاء الزينة غير الظاهرة بالخمار والجلباب، بحيث يبقى الحد الذي تعرف به المرأة وتتميز عن غيرها وتعرف هويتها، والجلباب والخمار من خلال استعمالاتهما اللغوية والتاريخية يشيران إلى الستر الشامل، وخص القرآن بالستر الجيب -وهو فتحة الثوب عند النحر- واستثني من الستر ما ظهر من الزينة، ولم يعرِّف القرآن ما ظهر منها، والدلالة المتبادرة تشير إلى كون هذا الظهور هو الطبيعي والتلقائي وغير المتكلف، فالحديث عن الستر بالخمار والجلباب لا يمكن أن تكون معه دلالة ما ظهر من الزينة مفتوحة حسب العرف الذي قد يلغي الحجاب تماما، فالتعبير القرآني يشير إلى حجاب طبيعي غير متكلف يستر الرأس والبدن من خلال دلالة الخمار والجلباب، ويسمح بظهور الوجه واليدين وزينتهما الطبيعية وما تحتاجه المرأة في أدائها لأعمالها اليومية.

إن الآيات كما اتضح لنا تشير إلى العفة الأخلاقية كمقصد أساسي لتشريع الحجاب، وهذه العفة لا تتأسس على طهارة القلب فقط إنما تنضبط باللباس أيضا الذي يحول دون التمادي والتساهل والشطط في ضوابط العلاقات بين الجنسين، فاللباس بمثابة عنوان ورقيب أخلاقي لهذه العلاقة.

إذا صح هذا الفهم للسياقات النصية المتعلقة بتشريع الحجاب أمكن القول إنه بمعزل عن أن يكون تشريعا تاريخيا يرتبط بالتفريق بين المرأة الحرة وغيرها، أو أن يكون مرتبطا بأعراف عربية كانت سائدة، فالخطاب يرتبط بمؤشرات لها صلة بقضايا ترتبط بالإنسان والأخلاقيات العامة التي لا تختص بزمان ولا مكان، ومن هنا فالتفسير التاريخي تنقضه سياقات الآيات.

إن دلالات النصوص تعزل الحجاب عن أن يكون علامة تمييزية دينية أو غيرها، فهو تشريع يساعد في ضبط الأخلاق في المجتمع، وإن كان يميز المرأة المسلمة عن غيرها فهو تمييز تبعي وليس قصديا، لذا فإن منعه يعتبر منعا للمسلمة من ممارسة واجب ديني، وبهذا يعتبر اعتداء على حق من حقوق التدين التي هي جزء أساسي من حقوق الإنسان العالمية، ولئن تم توظيف الحجاب لأهداف سياسية أو غيرها فيمكن الخروج من هذا التوظيف بضبط نمط خاص بالحجاب في بعض الأقاليم التي تعاني من هذا التوظيف، كما يمكن أن يكون هذا الضبط من أجل تنظيم الزي في بعض المؤسسات.(13)

خاتمة

ما تنتهي إليه هذه المقاربة هو التأكيد على أن مسألة اللباس في الإسلام تستند إلى فلسفة العفاف وليست الغاية هي ستر البدن لذاته؛ لذلك قال تعالى: ]وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[ (الأعراف:26)، وإن كان تشريع الحجاب يخص المسلمين فإن فلسفته إنسانية، فمن لا يؤمن بالعري عليه أن يبحث في فلسفة الحجاب، فبروز المرأة بالشكل الذي يظهر به الرجل يجعل المقابلة متمحضة بين ذكر وأنثى، بينما ظهورها بالحجاب الذي يخفي زينتها الأنثوية يجعلها تقابل الرجل كإنسانة مع إنسان، تختفي في سياق تلك العلاقة عناصر الإثارة التي تشوش العلاقة الإنسانية المتساوية بين المرأة والرجل.

قضية الحجاب إذًا متعددة الأبعاد والدلالات، وإن كانت في عصر سابق تعبر عن موقف من تحرر المرأة فإنها اليوم تعبر عن موقف من حريتها الشخصية والدينية.


  كاتب سوري وعضو الهيئة التدريسية في كلية الشريعة جامعة دمشق.

الكاتب arabic_user

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى