نحو اجتهاد يضبط قضية الاستنساخ دراسة النصوص الشرعية المرتبطة بقضية الاستنساخ البشري
1 ـ يرى البعض أنه ينطبق على الاستنساخ أنه تغيير لخلق الله تعالى، وتغيير خلق الله تعالى محرم بقوله تعالى:( إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا ولأضلنهم ولأمنيهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله)”النساء:117-119″؛ إذ تدل الآية على أن تغيير خلق الله تعالى محرم لأنه مما يأمر به الشيطان، وهو لا يأمر إلا بالفحش والمعاصي.
وقالوا: ومما يدل على أن تغيير خلق الله تعالى ممنوع شرعًا لقول الله تعالى: ( فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)”الروم:30″ وقد ورد عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: “لعن عبد الله ـ يعني عبد الله بن مسعود ـ الواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فقالت أم يعقوب ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في كتاب الله؟” الحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
ونقول إن قول الله تعالى: ( فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)”الروم:30″ يعني عند أكثر المفسرين أن الدين الحق، وتوحيد الله بالعبادة وإقامة الوجه له، والبعد عن الشرك وتجنب جميع مظاهره هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن بدّل عن ذلك فقد بدّل الفطرة، وليس له تبديلها.
وأما جعل الوشم والتفليج والنمص من تغيير خلق الله فقد يفهم من روايات الحديث أنه من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه وليس قوله حجة على ما هو المعتمد عند بعض المحققين من الأصوليين من أن قول الصحابي ليس بحجة في الدين.
وإذا قلنا هو حجة، أو افترضنا أن جعل هذه الأمور من تغيير خلق الله، فالتغيير هو ما ذكره من الوشم والتفليج والنمص ونحوها من التغيير في الجسم، مما يظهر الخلقة على غير ما جعلها الله تعالى عليه، ولا ينطبق ذلك على الاستنساخ إلا إن أدى إلى نحو وجود دجاجة بست أرجل، أو رأسين، أو بقرة بثلاث أعين. أما إن وجدت بالاستنساخ حيوانات بالصورة التي خلقها الله تعالى عليها فلا ينطبق عليها أنها تغيير لخلق الله.
ثم لو قلنا إن الاستنساخ في البشر من تغيير خلق الله تعالى لوجب أيضًا منع الاستنساخ في النبات والاستنساخ في الحيوان، وهذا من التضييق والتعسير الذي لا تأتي به الشريعة. وبهذا يعرف أيضًا الجواب عن الاستدلال بالآية الأولى.
2 ـ قد يظن البعض أن محاولة توليد المنسوخ بهذه الطريقة هو محاولة من البشر أن يخلقوا مثل خلق الله تعالى. ومحاولة مثل ذلك ظلم وأي ظلم، لأنها لا تقع إلا ممن لا يقدر الله تعالى حق قدره، فيدخل تحت قول النبي (صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: “ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة” (أخرجه البخاري ومسلم).
وقد رددنا على هذا التصور في ما تقدم من هذا البحث، وبينا أن فعل الاستنساخ ليس من جنس الخلق الذي تفرد الله تعالى به، بل هو نوع من (الزراعة) أي: وضع البذرة التي خلقها الله، وجعل فيها سر الحياة، في بيئة مناسبة لنموها، فتنمو لتكون مخلوقًا من مخلوقات الله تعالى، وهذا تمامًا، كما أن الزارع لبذرة شجرة إذا دفنها في الأرض وسقاها حتى نبتت وعظمت وآتت الثمار اليانعة، لا يصح القول بأنه قد خلق تلك الشجرة، ولهذا قال الله تعالى: ( أفرءيتم ما تحرثون* ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون)”الواقعة:63-64″ .
3 ـ ورأى بعض المتكلمين من وجهة النظر الشرعية، في الاستنساخ أنه معارض للآيات التي ذكرت التناسل في ذكر وأنثى، بوصفه طريقة التكاثر البشري، نحو قول الله تعالى:( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة)”النحل:72″ ، وقوله تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء) وقال: ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا)”الإنسان:2″.
قالوا: فتخلق حيوان أو إنسان بغير هذه الطريقة خارج عن الدلالة القرآنية.
ويمكن الإجابة عن الاستدلال بهذه الآيات ونحوها أنها لا حصر فيها لطرق التكاثر، فهي ذكرت الطريقة المعهودة، ولم تمنع طرفًا أخرى نادرة.
والجواب الصحيح أن يقال: إن الخلية المأخوذة من الأصل المستنسد منه، ناشئة في الأصل من تزاوج ذكر وأنثى، وهذا عندما كان ذلك الأصل خلية واحدة، ثم تكاثرت خلاياه بالانقسام إلى أن صارت مئات الملايين عددًا، وكل منها يتكون من 46 كروموسومًا، 23 منها أصلها من الذكر، و23 أصلها من الأنثى، فهي إذن من ذكر وأنثى، وتدخل في الآيات المتقدمة من هذه الناحية.
4 ـ وقالوا أيضًا: إن هذا تبديل لسنة الله تعالى في خلق الإنسان والحيوان، وكل شيء خرج عن تلك السنة فهو من تبديل سنن الله تعالى، وقد قال سبحانه وتعالى( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً)”فاطر:43″ .
والجواب عن هذه الطريقة في الاستدلال أن الآية لا علاقة لها بالاستنساخ أو غيره مما يمكن الله تعالى به البشر من التصرف في المواد الأرضية بما ينفعهم من الصناعات التحويلية ونحوها، فإن الله تعالى استخلف آدم وذريته في الأرض، واستعمرهم فيها، فهم يغيرون ويبدلون، فيجعلون التراث أسمنتًا، ويجعلون الحجارة بيوتًا، ويغيرون أشكال المواد وصفاتها على الوجه الذي فيه نفعهم.
ثم لو كانت هذه التغييرات والتبديلات، ومنها الاستنساخ، من تبديل سنن الله المنفية بالآية لكان المزارع إذا قلب شجرة اللوز بالتطعيم إلى شجرة المشمش أو خوخ، داخلاً في ذلك، فإنه ليس في سنة الله تعالى ـ على الوجه الذي طبع عليه الطبيعة ـ أن تنقلب شجرة اللوز إلى شجرة مشمش تلقائيًا.
ثم إن الآية تدل على أنه ليس بإمكان البشر تغيير سُنة الله تعالى، فلما أمكن التغيير في الأمور الصناعية والتكنولوجية، كالتطعيم والاستنساخ دلّ ذلك على أنه ليس مرادًا بالآية.
ولو نظرت في سياق هذه الآية والآيتين المشابهتين لها (سورة الأحزاب: 62) و(سورة الفتح: 23) لعلمت أنها كلها واردة في سنة الله في نصر رسله على أعدائه الذين يشاقون الله ورسوله، قال القرطبي في تفسير سورة الفتح، الآية 23: “سُنة الله، أي طريقته في نصر أوليائه وخذلان أعدائه”.
إذن فنحن نقول جزمًا: “إن الاستنساخ لا يخالف العقائد الإسلامية الصحيحة”، ويبقى النظر في معرفة حكمه الشرعي الفرعي، وهو ما سوف نحاول أن نبينه فيما يأتي.
المصالح والمفاسد المترتبة على برامج الاستنساخ البشري
أولاً: المصالح:
1 ـ سيمكن من وجهة النظر الطبية الصرفة الاستفادة من الاستنساخ في بعض حالات العقم:
فالرجل الذي لا يستطيع الإنجاب بالطريق المعتاد قد يُقال بأنه يمكن أخذ خلية من جسده، وتؤخذ نواتها، لتدمج في بييضة منزوعة النواة مأخوذة من زوجته، ثم يعاد زرعها في رحم الزوجة نفسها صاحبة البييضة.
والمرأة التي لا يستطيع جسدها إنتاج بييضات بالعدد الكافي سيمكن الاستنسات فصل جنين واحد منها، في مرحلة الخليتين، أو الأربع أو الثمان، إلى عدة أجنة يحتفظ منها بالعدد الكافي احتياطًا للمستقبل.
2 ـ إمكان علاج بعض الحالات المستعصية التي تحتاج إلى استبدال كلية أو قرنية أو نحوها، بأخذها من بدن شخص مستنسخ من الشخص المريض، فإن الجسد لن يرفض العضو الجديد المأخوذ بهذه الصورة.
لكن يتوقع علماء النفس أن يكون لهذه الطريقة أضرار نفسية جسيمة، إذا عرف النسيخ أنه إنما أتى به إلى الوجود لمجرد أن يكون (مستودع قطع غيار) لإنسان آخر.
3 ـ الاستنساخ من ذوي المواهب والقدرات الفائقة، سواء كانت جسدية، كأبطال الرياضة، والفائقين في الجمال، أو عقلية كقادة الجيوش المنتصرة، وأبطال السياسة والعلم والأدب والفن والاختراع. فيرى البعض أنه يمكن بالاستنساد إيجاد أعداد كبيرة من هؤلاء. وهذا أمر مغر للدول العظمى، وللدول التي تطمح أن تلحق بالدول العظمى بامتلاك إمكانيات لا تتوفر لغيرها من الدول، وأهمها الثورات البشرية النادرة، وهو أمر يغري الشركات أن تستنسد (نسخًا) من العباقرة في العلم والاختراع لتبقى متفوقة على منافسيها.
غير أنه يمكن القول بأن الله تعالى خلق بني آدم مختلفين في قدراتهم اختلافًا بينًا، وأن هذا الاختلاف أمر أراد الله تعالى إيجاده في الخلق، ولم يقع صدفة؛ وذلك لأنه أنفع لسير الحضارات وتقدمها، ولصلاح الشعوب والمجتمعات، ليقوم كل منهم بالأعمال التي تناسبه ويقدر عليها، ولتختلف آراؤهم وأفكارهم فلا يكونوا نسخًا مكررة لشيء واحد وذلك أنفع لعمران الأرض، وفي الحضارة قال الله تعالى:( أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا ورحمت ربك خير مما يجمعون)”الزخرف:32″ ، وقال سبحانه:( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)”هود:119″ .
4 ـ إمكانية حصول الأسرة التي حرمت من الذكور على ابن ذكر بالاستنساد من رب الأسرة، والتي حرمت من الإناث من الحصول على بنت أنثى، وهذا إن تحقق ما توحي به قضية المطابقة في الجنس في أنواع الاستنساخ بين الأصل والفرع.
وكل هذه الأنواع من المصالح أوردناها حسب التصور المصلحي بقطع النظر عن الحكم الشرعي.
لكن الواجب على كل إنسان أن لا يتصرف في أمور حياته بمجرد ما يتخيله من المصالح، في الأمور التي فيها حكم شرعي إلا بمقتضى ذلك الحكم؛ لأنه إما مستفاد من النص مباشرة، فيكون من أمر الله تعالى، وإما مأخوذ من النص بالاجتهاد، فهو أقرب إلى الصواب من اتباع مجرد ظن المصلحة، فيكون اتباعها في مخالفة الحكم الشرعي اتباعًا للهوى، وقد قال الله تعالى:( ومن أظلم ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)”القصص:50″ .
وسيأتي بيان الرأي في الحكم الشرعي للاستنساخ البشري في آخر هذا البحث.
ثانيًا: المفاسد والمحاذير في الاستنساخ البشري:
وهي كثيرة، ويبدو أنها لم تتكشف كلها للعلماء والمفكرين بعد. فمنها:
1 ـ التأثير سلبيًا على مؤسسة الأسرة التي هي الركن الركين للمجتمعات، والتي أثبتت صلاحيتها وكفاءتها منذ عهد آدم وحواء عليهما السلام، وتحرص عليها الأديان كلها، وتحميها وتقويها وترعاها من الجوانب كافة، وهي الأنسب لرعاية الإنسان وليدًا وطفلاً وشابًا وكهلاً وشيخًا، ومن هنا حرم الشرع الإسلامي الزنا واللواط، وأثبت حرمة البيوت، وحرمة النفوس، وأوجب البر والصلة، وأحكام النكاح والرضاع والنفقة والولاية والوصاية وأحكام العدد والنسب والميراث وغيرها، مما سمي باسم: الأحوال الشخصية، أو أحكام الأسرة.
وينشأ الطفل في الأسرة الشرعية محوطاً برعاية الطرفين: الأب والأم، ومن خلفهما الأجداد والجدات والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وبينهم ينشأ الطفل مطمئن النفس إلى أنه في بيئة ترعاه بكل قلوبها وجوارحها، وتحنو عليه، وتفديه في صغره، ثم في حالات الضعف والأزمات بعد ذلك، وهذا بخلاف الطفل الفاقد لكلا الجانبين كاللقيط، أو لأحدهما كاليتيم الذي فقد أباه، والعجيُّ الذي فقد أمه وكابن الزنا الذي لا يعرف له أباً، فإن كلاً من هؤلاء ينشأ في نكد وعسر من أمر حياته، كما هو مشاهد، ولا تكاد تصلحه الدور الاجتماعية التي تهيأ له مهما كانت جودتها ومهما عظمت العناية بها.
فالاستنساخ حيث لا يعرف النسيخ أصله يكون من هذا الباب. وحتى لو عرف أصله ونشأ في رعايته فلن توجد تلك العلاقة القلبية التي تصل الأب والأم بابنهما وبنتهما.
وإن نشأ الطفل النسيخ في رعاية أب ليس هو أباه الطبيعي (كزوج أم) مثلاً، فلن يجد لديه الحنان الحقيقي الذي يجده الطفل من أبيه الشرعي الطبيعي.
2 ـ إن الاستنساد (وهو الاستنساخ من الخلايا الجسدية) يصلح علمياً أن يكون من أنثى لأنثى، وهذا ما حصل للنعجة (دوللي) فإنها تخلقت باستزراع نواة خلية من نعجة حامل.
فإن حصل هذا في البشر، كان فيه، بالإضافة إلى فقدان النسيخ نصف العلاقات الوالدية كما تقدم الاستغناء عن الرجال في عملية الإخصاب، خلافاً لما كان عليه الأمر في الخلق منذ عهد آدم عليه السلام، ما عدا ما كان من شأن عيسى عليه السلام فلو كثر هذا في بعض المجتمعات البعيدة عن الإرشاد الإلهي سوف يؤدي إلى انحطاط مرتبة الرجال، وتفوق النساء، لأنهن يصبحن في غنى تام عن نوع الرجال، وفي ذلك ما فيه من ضرر على الحضارة والتقدم.
وربما كان في الحديث النبوي الإشارة إلى أن هذه الحالة ستقع في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فعن أنس (رضي الله عنه) قال: لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم (به) أحد بعدي: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: “إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل ويظهر الزنا ويقل الرجال، وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد” (أخرجه البخاري ومسلم).
3 ـ إنه إن تحقق ما توحي به قضية المطابقة بين الفرع والأصل في الاستنساخ في الذكورة أو الأنوثة ربما أصبح التحكم في المواليد المطلوبة للمجتمعات تابعاً لهؤلاء الساسة في كل مجتمع. ولهذا من العواقب الوخيمة ما قد لا يقدرونه في الحال، فيؤدي ذلك إلى تدمير المجتمع على المدى البعيد. فإن الله تعالى جعل كلاً من الذكر والأنثى سكناً للآخر، وجعل ذلك أساس بناء المجتمع. وهذا كما أنه مطلوب للديانات السماوية هو أيضًا من النواميس الجارية في الخلق، فإن الغالب في المجتمعات الإنسانية مساواة أعداد الرجال لأعداد النساء تقريبًا، ولا يعرف البشر إلى هذا الوقت كيف تتحكم الإرادة الإلهية فتساوي بين أعداد الجنسين، ولله حكمته البالغة. فكيف إذا كان الأمر تبعًا لأهواء البشر ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) “المؤمنون:71”.
4- تحدث قوم عن استنساخ نسخ من العظماء والطواغيت الموتى أو الأحياء. والإنسان مغرم بطول البقاء. وقد قال الله تعالى حاكياً ما قاله إبليس لآدم عليه السلام: ( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) “الأعراف:20” فاستطاع باستغلاله ميل آدم وحواء إلى الخلود أن يغويهما عن أمر الله تعالى.
وقد حاول الفراعنة الطواغيت الوصول إلى بعض ذلك، بأن صنعوا التماثيل والأصنام التي تخلد ذكرهم، وتُوقع في القلوب الرهبة منهم، وتوحي بأنهم كانوا ذوي قدرات خارقة. فسيجد فراعنة العصر بالاستنساد الوسيلة التي يبقون بها أحياء يمشون بين الناس، ضمن النسخ التي تؤخذ من أجسادهم، وتنمو في أرحام مستأجرة.
وسوف يغلب على ظن المغرورين منهم أن من مصلحة شعوبهم ـ التي قد لا تجد وسيلة للخلاص منهم إلا التربص بهم أن يحصدهم الموت لتتنفس الشعوب الصعداء ـ سوف يظن الطواغيت أن من المصلحة أن لا تفقد شعوبهم بفقدهم عبقرياتهم الخارقة التي لن تصلح شؤون الشعوب إلا بها، وأن الأبناء الطبيعيين لا يمكن أن يقوموا مقامهم لأن في هؤلاء الأبناء دماء أخرى، تنقص من مقدارهم، ولذلك يسعون إلى إيجاد نسخ أخرى منهم مطابقة تماما، تتابع السير في طريقهم. وسيدفع هؤلاء الطواغيت من أموال شعوبهم، سرًا أو علانية، التكاليف الباهظة لهذه النسخ الثمينة. وربما أيد هذا المسعى بعض الفئات المغترة بأمثال هؤلاء، أو الحاطبين في حبالهم.
5- إن التكاثر التزاوجي فيه ارتقاء بجنس البشر، لأنه يقوم على سنة انتخاب النسل الأقوى والأوفر حظاً من الصحة والجمال والقدرات العقلية: يبدأ بانتخاب كل من الزوجين شريكه الآخر من بين المئات والألوف من البشر. ثم تجري عند الإخصاب عملية السباق بين ملايين الخلايا الذكرية لتلقيح الخلية الأنثوية، ويكون ذلك من حظ الأقوى والأسرع.
أما التكاثر الاستنساخي إن أُتيح للناس استخدامه، فسوف يكون الأمر فيه تابعاً لأهواء أصحاب القدرات المالية، القادرين على دفع التكاليف الباهظة، ولن يكون هناك ارتقاء ولا انتخاب، بل صورة مطابقة تماما.
هذا بالإضافة إلى أن الإنسان يهمه أن يحقق ذاتيته وهويته التي يعلم أنها متميزة عن سائر الناس، والنسخ مفوِّت لهذه الذاتية والهوية. ويمكن مقارنة ذلك بالأصل النادر من كتاب بخط مؤلفه ليس له نظير، فإن قيمته ذاتية. أما النسخ المكررة من كتاب مطبوع فإن كلاً منها فاقد للقيمة الذاتية، إلا ثمن الورق وأجرة الطبع. غير أن بعض المفكرين يقرون بأن المساواة بين الأصل وبين النسيخ ليست إلا مساواة شكلية سطحية ظاهرية، وأن ذلك لا يمنع أن تكون كل واحدة من النسخ متفردة بذاتيتها. إن الإنسان هو جهة اللحم والدم وليد أبويه، أما عقليته وأفكاره وأخلاقه ومواهبه فهي بنسبة كبيرة: وليدة الخبرات الحيوية والدراسات والبيئة التي تحيط بالناشئ من مختلف الوجوه.
وهذا عندي حق بنسبة كبيرة، والتوائم المتطابقون هم متطابقون من جهة الشكل والمظهر، والخصائص العقلية والنفسية الأساسية المركبة فيهم، لكن لك منهم طباعه وانفعالاته وعواطفه وشجونه وأفكاره وكفره وإيمانه، خاصة أن تربوا في بيئتين مختلفتين، كما هو معلوم. والنسيخ في الحقيقة ما هو إلا توءم مطابق في الأمور الأساسية فقط.
6- ويتبع ذلك أيضًا خلل اجتماعي من ناحية أخرى، وذلك أن التفرد في المظهر الجسدي يعطي الشخص هويته التي يعرف بها، وبها يمكن أن يتعين الشخص في المعاملات المدنية والجنايات والأمور الاجتماعية وغير ذلك. وقد قامت الأنظمة في العالم على تحمل كل إنسان مسؤوليته عن أعماله، واستحقاقه لحقوقه التي يحفظها له المجتمع، فلو أن الاستنساخ أخذ مجراه في البشر، ووجد من الإنسان الواحد مئات من النسخ المتطابقة، فإن هذا يجعل من العسير تحديد محل الحقوق والالتزامات عن الإعمال البشرية.
وكمثال على ذلك يُذْكر أن البصمة كانت وسيلة لتحديد شخصية الإنسان لآماد طويلة، وستفقد البصمة قيمتها بشيوع الاستنساخ؛ لأنها ستكون متكررة بتكرار النسخ بالهيئة نفسها تمامًا. ومثال آخر، أنك تذهب إلى المصرف لفتح حساب جار مثلاً، أو السحب منه، فيكتفي موظف المصرف للتثبت من كونك صاحب الحساب النظر إلى صورتك في البطاقة الشخصية، فلو اتحدت بالاستنساخ صورة مائة شخص أو ألف شخص مثلاً، يكون من العسير إثبات من هو صاحب الحساب منهم. وهكذا في تعامل الناس مع كل نسخة من الألف بالبيع أو الشراء أو إثبات الحقوق.
7- إن الاستنساخ سيُوجد مشكلات في النسب وما ينشأ عنه من الحقوق، كالنفقات والميراث والحضانة والولاية وغير ذلك.
وبيان ذلك بالنظر في العلاقة بين كل من النسيخ وأصله صاحب النواة المستنسخ منها، وبين المرأة صاحبة البويضة، والمرأة التي حملت وولدت. وذلك يطرح أسئلة يعسر الجواب عنها، منها:
أ- هل الشخص المستنسخ منه هو الأب الطبيعي للنسيخ. أم هو أخ له، ويكون أبو الأصل هو أباهما، أم ليس للنسيخ أب؟!.
ب- في حالة كون الاستنساخ من خلية امرأة، من هو أبو البنت المنسوخة، أو المرأة صاحبة الخلية!!؛ أم أبو تلك المرأة ؛ أم ليس لها أب على الإطلاق؟! وهكذا يقال فيها لو نسدت المرأة من خلاياها هي وحملت به.
ج- في حالة إعادة البييضة في غير رحم صاحبتها: أيتهما الأم الطبيعية: صاحبة البييضة، أم صاحبة الرحم، أم صاحبة النواة، أم صاحبة النواة؟.
وينبني على هذا الاضطراب ذلك الاضطراب الذي سيحدث في تحديد من هم إخوة هذا النسيد من أبيه، ومن إخوته الأشقاء، ومن إخوته للأم، ومن أولاد إخوته، ومن هم أعمامه وعماته، ومن أخواله وخالاته، ومن المحارم ومن غير المحارم؟.
هذا الاضطراب في تحديد هذه العلاقات، وما يتبعه من الاضطراب في قضايا المحارم والميراث وغيرهما من الحقوق والواجبات، سوف يكون ذا أثر خطير على المجتمعات لا يعلم مداه إلا الله.
8- يخشى العلماء أنه قد ينشأ من بعض الأخطاء في أثناء تنفيذ عملية الاستنساخ أن توجد في المواليد عاهات وأمراض غريبة. وربما قصد بعض من يجريها إيجاد تلك العاهات والأمراض لتنفيذ مآرب عدائية.
9- وقد ينشأ بالاستنساخ جيل من المخلوقات ينشق عن الجنس البشري ويختلف عنه في الأشكال والنفسيات. ومثل هذا ليس مشكلة في شأن الحيوانات المستنسخة؛ لأنه يمكن القضاء عليه دون حرج، أما في البشر فهو مشكلة خطيرة.
تابع معنا بقية أجزاء الدراسة:
الكاتب arabic_user