السيرة النبوية احداث وعبر

حرية التفكير والتعبير في العهد النبوي

لا مراء في ريادة الإسلام في الدعوة إلى حرية التفكير والرأي السديد، وإعمال العقل للوصول إلى الحقيقة مهما كانت دينية أو علمية، وسواء انتمت إلى عالم الغيب أو الشهادة، فالحق ديدن المسلم، والحكمة مطلبه.

وشواهد ذلك تجلّ عن العد والحصر في القرآن الكريم، الذي ظل يدعو إلى كشف الحقيقة والوصول إلى اليقين بغض النظر عن الأحكام المسبقة. بل أنه وضع الجميع على طاولة واحدة، وقدم الفرضيات بخطأ الجميع، ثم  دعاهم إلى الحكم بعد ذلك بروية وتؤدة في صورة بالغة الجمال من الحوار والأدب الجميل، ومن ذلك ما دل عليه قوله تعالى: ﴿قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين* قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون﴾ [سبأ، 24-25]

بل الأكثر من ذلك حينما دعا الإسلام في عهده المكي مناوئيه إلى النظر في حقائقه ومقالاته، وكذا في الحالة الشخصية لحامل الرسالة بجهد فردي أو جماعي قصد التعرّف على الحق، والحق وحده في هذا الجديد: ﴿قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد﴾ [سبأ، 46]

ولأجل هذا دعا الإسلام في عهده المكي مناوئيه إلى النظر في حقائقه ومقالاته، وكذا في الحالة الشخصية لحامل الرسالة، ولم يكن يضيق بالأسئلة مطلقا، فقد أجاب القرآن عن أسئلة الصحابة ثلاثة عشر مرة، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الأسئلة إلا ما كان خارجا عن الحاجة العملية، أو ما كان جالبا للضرر والجدل، أو ما كان من ورائه تحريم مباح أو تضييق حلال.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:” ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم.”[البخاري، 7288]، وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: “إن أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته.” [مسلم: كتاب الحج، 1337]

وتفريعا على هذا فلم تكن هناك مبالغة في تديين الحياة، وإقامة الحواجز الجزائية أو المعنوية ضد التفكير وإعمال العقل، بل كانت المساحة الأوسع للإباحة والجواز، أي الفعل الذهني دون كوابح مانعة، بل كان التفكير الحرّ يسير دوما بهدي من القيم الناظمة للعقل المسلم.

لقد كان السؤال والمراجعة سلوكا عاديا في حياة الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقبيل خروجه إلى غزوة بدر فتح نقاشا عاما حول القتال من عدمه، وعبر عن ذلك القرآن الكريم بقوله: ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبيّن كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون﴾ [الأنفال، 5-6]

وفي القضايا العقدية لم يغلق النبي صلى الله عليه وسلم النوافذ أو الأبواب ضد الثقافات المختلفة، فقد كان يعاشر اليهود ويسألهم ويسألونه، وقد ثبت أنه عليه السلام كان يزور معهدهم الديني المعروف ببيت المدارس [البخاري: كتاب الاعتصام،7348]، ويرد عليهم إفكهم، ويناقشهم في مسائلهم، ويحجهم في باطلهم وليّهم وتحريفهم لكتبهم، وافترائهم على أنبياء الله المرسلين.

وفي التعامل مع المسيحية دعا الإسلام إلى محاورة أهل الكتاب وحكى باطلهم وإفكهم في القول بالتثليث، أو ألوهية عيسى، وجاء قوله تعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾ [العنكبوت، 46]

وثبت أنه عليه السلام قدم عليه وفد نجران مفاوضين، فأسكنهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وحاورهم خمسة عشر ليلة، حتى كان يراوح بين قدميه من شدة التعب، وعندما انتهى الحوار في حقيقة عيسى عليه السلام معهم إلى اللاحل، دعاهم عليه السلام إلى المباهلة فرفضوا. وفي ذلك نزلت آيات كثيرة من سورة آل عمران نحو قوله تعالى: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ [آل عمران، 59]

وفي حرية التفكير والتعبير لم يغلق النبي صلى الله عليه وسلم أفواه منتقديه ومعارضي سياساته المالية والإدارية من المنافقين أو غيرهم، كما هو النص في سور المنافقون والحشر والتوبة،  كيف وهو الذي دعا إلى قولة الحق، وبايع الصحابة على ذلك، ففي حديث عبادة بن الصامت: “بايعنا رسول الله على أن نقول الحق أينما كان لا نخاف في الله لومة لائم.”[ مسلم، 1840]

بل إنه كان يحث الصحابة على الإدلاء بآرائهم والتعبير عن مكنونات أنفسهم، ولم يُغفل القرآن مواقف جليلة في ذلك في الأمور الاجتماعية مثل قصة المجادلة خولة بنت حكيم في مسألة الظهار، بل لقد كان مسجده مفتوحا لكل الناس كافرهم ومؤمنهم، أعرابييهم وحضرييهم، حتى أن البعض تجاوز حدود الأدب في التعبير عن الرأي كما حصل مع بني تميم الذين جاءوا مفاخرين بخطيبهم وشاعرهم، فنزل قوله تعالى في حقهم: ﴿إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون﴾ [الحجرات، 4]

وعندما كان البعض يجاوز حدود الحاجة في السؤال أو الاقتراب من النبي صلى الله عليه وسلم بدعوى الخصوصية كان القرآن ينزل معقبا لا مانعا من التعبير، ولكن برسم الخطوات الأخلاقية في الإدلاء بالرأي من باب أمانة الكلمة وحرمة القول، وذلك في مثل قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين أمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾ [الحجرات، 2]

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع علائق أصحابه بتراثهم الجاهلي في حسناته وأخلاقه الكريمة، ومن ذلك أنه كان يتناشد وأصحابه الجميل من الشعر الجاهلي والحكم العربية، ويتسامر مع زوجاته بالتراث الثقافي للعرب الأوائل، كما هو الشاهد في حديث أم زرع [البخاري: كتاب النكاح،5189]

لقد كانت حرية التفكير والتعبير مكفولة في دولة النبي صلى الله عليه وسلم بل قد شرّع الاسلام وسائلها من التواصل الثقافي واللغوي مع المجاورين، فهو الذي أذن لزيد بن ثابت بتعلّم السريانية، وعندما يأتيه تميم الداري المسيحي الذي أسلم يجمع النبي الصحابة في مسجده ليحدثهم تميم بمأثوراته [مسلم: كتاب الفتن،2942].

وعندما يلتبس الأمر على الصحابة من رواية أهل الكتاب يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة قال: “كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الاسلام، فقال رسول الله: “إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم” [البخاري: كتاب الاعتصام،7362]

 لقد كفل العهد النبوي حرية التفكير والرأي للمسلمين وغيرهم، ففي المدينة رافع اليهود عن دينهم وطرحوا شبهاتهم، وجاء النصارى يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، ووفد العرب المشركون ليفاخروا بباطلهم، واستمع النبي للجميع، ورد على الجميع، ولم يكن هناك سجون للرأي والكلمة، وإنما كانت الحجة بالحجة، والكلمة بالكلمة، والشعر بالشعر، والخطبة بمثيلتها. فالإسلام بقيمه وأسسه النظرية لا يهاب أي ديانة أخرى، بل إنه يقارعها ويحّجها، ثم يبزها، لأنه قبس من نور الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.     



الكاتب محمد عبدالحليم بيشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى