السيرة النبوية احداث وعبر

دروس من حياة الصحابي الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما

من العظماء من يشتهر بالشجاعة، فيكون مضرب المثل فيها، ومنهم من يشتهر بالحنكة وحسن القيادة والإدارة، فيصير عند أصحاب السلطان أسوة، ومنهم من يشتهر بالكرم، فيكون مجرد ذكر اسمه دافعا للبذل والعطاء، ومنهم من يشتهر بالحزم، فلا يتراجع عن أمر عزم عليه، ومنهم من هو كثير التطلع قوي العزم، لا يتردد ولا يتراجع عن مجد يهواه، ومنهم من يشتهر بالحلم والصفح والعفو والجنوح إلى مسالمة الآخرين؛ حتى يرى أن التنازل عن جاهه وسلطانه وماله أهون عنده من إراقة قطرة دم واحدة من مسلم، ومن هذا الصنف الأخير الحسن بن علي ـ رضي الله عنهماـ .

هذا الرجل الذي جمع بين كل أوجه العظمة التي يطمح إليها أي إنسان؛ فقد وصل إلى مكانة عليا لا يرقى إليها حتى ملوك الأرض على اختلاف أجناسهم؛ فهو سبط النبي صلى الله عليه وسلم وريحانته، وهو سيد شباب أهل الجنة كما أخبر رسول الله، وأبوه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وسيدة نساء العالمين، وأحب الناس إلى أبيها.

وقد ورث من النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من المكارم؛ حتى قيل: إنه كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم خِلقة وخُلقا، واختار له النبي صلى الله عليه وسلم اسم الحسن من بين سائر الأسماء ليكون دالا على حسنه.

وُلِد ـ رضي الله عنه – بالمدينة المنورة في منتصف شهر رمضان سنة 3 هجرية تقريبا، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وأذن في أذنه بالصلاة لتكون كلمة التوحيد هي أول كلمة تصل إلى سمعه، ثم لفه صلى الله عليه وسلم في خرقة بيضاء، وتفل في فمه، وحنكه بريقه ثم دعا له.

وظل صلى الله عليه وسلم يتعهده ويصنعه على عينه، ولطالما رفق به ورق له ورحمه؛ مما كان له أكبر الأثر في حياته وتعامله مع الناس فيما بعد.

فقد جاء عن ابن عباس ـ  رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل وهو يحمله على رقبته فلقيه رجل فقال: نعم المركب ركبت يا غلام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ونعم الراكب هو”. (سنن الترمذي 5/ 661)

وقد أجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره ذات يوم، فبال عليه فلطمته لبابة بنت الحارث، فعز عليه ذلك ، وقال لها صلى الله عليه وسلم: “أوجعت ابني.. رحمك الله”. (سنن ابن ماجه 2/ 1293)

ولما اشتد عوده كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجده يصلي فيدور حوله، ويحاول أن يخرج من بين رجليه فيفسح له رسول الله، وإذا وجده ساجدا ركب فوق ظهره فينتظره صلى الله عليه وسلم حتى يهبط من فوقه.

يقول أبو بكرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، وكان الحسن يجيء وهو صغير فكان كلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب على رقبته وظهره، فيرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه رفعا رقيقا حتى يضعه”. (ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى لمحب الدين أحمد بن عبد الله الطبري ص:  125)

وفي حديث عبد الله بن شداد عن أبيه “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بهم إحدى صلاتي العشي (الظهر أو العصر) فسجد سجدة أطال فيها السجود، فلما سلّم قال الناس له: “يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْ الصَّلاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ”. (مسند أحمد 45/ 613)

وهذه المواقف التي وعاها الحسن ـ رضي الله عنه ـ في صغره كان لها أثر كبير في شفقته ورحمته على الخلق فيما بعد، وزاد من أثرها أنه لم يجد أن تلك الرحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أمرا عارضا، وإنما كانت طبعا ملازما له، وقد شاهده صلى الله عليه وسلم وقد جاءته امرأة ومعها ابنان لها فأعطاها ثلاث تمرات، فأعطت ابنيها كل واحد تمرة، فأكلا تمرتيها، ثم جعلا ينظران إلى أمهما فشقت تمرتها بنصفين بينهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قَدْ رَحِمَهَا اللهُ بِرَحْمَتِهَا ابْنَيْهَا”. (المعجم الكبير للطبراني 3/ 78)

وظهرت أسمى آيات التراحم في سلوكياته عندما رأى غلاما أسود يأكل من رغيف لقمة ويطعم كلبا هناك لقمة، فأخذته الشفقة له وقال: ما حملك على هذا؟ فقال: إني أستحي منه أن آكل ولا أطعمه، فقال له الحسن: لا تبرح من مكانك حتى آتيك، فذهب إلى سيده فاشتراه، واشترى الحائط الذي هو فيه، فأعتقه وملكه الحائط. (البداية والنهاية ط إحياء التراث 8/ 42).

والإنسان غالبا لا يقسو قلبه ويخلو من الرحمة إلا بسبب الجشع والطمع وعدم التعفف عن أموال الغير؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرب الحسن منذ صغره على التورع عن مال الغير مهما كان قليلا، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أخذ الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كخ كخ” ليطرحها. (صحيح البخاري 2/ 128).

وكان يرشده دائما إلى البعد عن الشبهات، ويردد أمامه: “دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ” حتى حفظها ـ  رضي الله عنه ـ وصارت من مروياته فيما بعد. (مسند أحمد 3/ 249)

والإنسان لا يغلبه الطمع إلا إذا نسي حال الآخرة، أما الحسن فما غاب عن ذهنه مشهدها، وكثيرا ما كان يردد قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً”ومن يوقن أنه سيقف بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم المحشر ولا يجد ما يستر به سوءته كيف يطمع؟!!

وكيف يطمع وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير قد صعد المنبر يوم غزوة تبوك؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “يا أيها الناس إني ما آمركم إلا ما أمركم به الله، ولا أنهاكم إلا عما نهاكم الله عنه، فأجملوا في الطلب! فوالذي نفس أبي القاسم بيده إن أحدكم ليطلبه رزقه كما يطلبه أجله، فإن تعسر عليكم منه شيء فاطلبوه بطاعة الله عز وجل”. (المعجم الكبير للطبراني 3/ 84).

وهو لا يتصارع على حطام الدنيا؛ لأنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الدُّنْيَا دُوَلٌ فَمَا كَانَ مِنْهَا لَك أَتَاك عَلَى ضَعْفِك، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْك لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِك، وَمَنْ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِمَّا فَاتَ اسْتَرَاحَ بَدَنُهُ، وَمَنْ رَضِيَ بِمَا رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى قَرَّتْ عَيْنُهُ”. (أدب الدنيا والدين ص: 228)

وكانت وصيته لكل من ينسى نفسه في صراعات الدنيا ويكتنز المال لغيره: “لا تخلف وراءك شيئا من الدنيا، فإنك تخلفه على رجلين: رجل عمل بطاعة الله تعالى فسعد بما شقيت به، ورجل عمل بمعصيته فكنت عونا له على ذلك، وليس أحد بحقيق على أن تؤثره على نفسك”.(محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصفهاني 1/ 610)

وكثيرا ما كان يردد: “يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها إن اغترارا بظل زائل حمق”( الزهد لابن أبي الدنيا ص: 31)

كما كان رضي الله عنه محبا للطاعة والعبادة، شديد التعلق بالمساجد، ولما سئل عن ذلك قال: سَمِعْتُ جَدِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ أَدْمَنَ الاخْتِلافَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَصَابَ أَخًا مُسْتَفَادًا فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِلْمًا مُسْتَطْرَفًا، وَكَلِمَةً تَدَعُوهُ إِلَى الْهُدَى، وَكَلِمَةً تَصْرِفُهُ عَنِ الرَّدَى، وَيَتْرُكُ الذُّنُوبَ حَيَاءً أَوْ خَشْيَةً، وَنِعْمَةً أَوْ رَحْمَةً مُنْتَظَرَةً” (الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4/ 142)

وكان يتقاسم قيام الليل مع أخيه الحسين، يأخذ الحسن بنصيبه من القيام من أول الليل، ويأخذ الحسين بنصيبه من آخر الليل.

وغالبا ما كان يقضي فترة ما بين المغرب والعشاء في الصلاة، فقد قال مخلد بن الحسين عن ابن جريج: كان الحسن بن علي لا يزال مصليا ما بين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك، فقال: إنها ناشئة الليل. (الزهد لأحمد بن حنبل ص: 141)

وكان ـ رضي الله عنه ـ إذا فرغ من وضوئه تغير لونه، فسئل عن ذلك فقال: يحق على من أراد أن يدخل على ذي العرش أن يتغير لونه. (تفسير التستري ص: 109)

وكان مسالما حليما يميل إلى الصفح والعفو، فقد بلغه عن رجل كلام يكرهه فأخذ طبقا مملوءا من التمر الجني، وحمله بنفسه إلى دار ذلك الرجل، فطرق الباب، فقام الرجل، وفتح الباب، فنظر إليه ومعه الطبق فقال: وما هذا يا ابن بنت رسول الله؟ قال: خذه فإنه بلغني عنك أنك أهديت إليّ حسناتك فقابلت بهذا. (التبر المسبوك في نصيحة الملوك لأبي حامد الغزالي ص: 25)

وَكان يقول: “لَوْ أَنَّ رَجُلا شَتَمَنِي فِي أُذُنِي هَذِهِ، وَاعْتَذَرَ إلَيَّ فِي أُذُنِي الأخْرَى، لَقَبِلْتُ عُذْرَهُ”(الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/ 302)..

وكان شديد الورع والبعد عن الخوض في سفك الدماء، شعاره: “والله لا أقاتل في فتنة”، يحرص على رواية الآثار التي تحذر من الخوض في دماء الصحابة، وخاصة المشهود لهم بالفضل، ومن ذلك قوله: جاء عمرو بن جرموز إلى علي بن أبي طالب بسيف الزبير، فأخذه علي فنظر إليه ثم قال؟ أما والله! لرب كربة وركية قد فرجها صاحب هذا السيف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (تاريخ دمشق لابن عساكر 18/ 422) (وجامع الأحاديث 30/ 249)

وقوله: “لقد رأيت عليا (يقصد أباه) يوم الجمل يلوذ بي وهو يقول: “يا حسن! ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة. (مسند الحارث المسمى بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث 2/ 761) .

وسمع رجلا أعمى يذكر عثمان بسوء، فقال لعثمان ـ رحمه الله ـ يقول ذلك؟: “لقد قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وما على الأرض أفضل منه، وما على الأرض من المسلمين أعظم حرمة منه، فقيل له: قد كان فيهم أبوك فقال: ذروني من أبي ـ رضي الله عنه ـ  لقد قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ يوم قتل وما من رجل أعظم على المسلمين حرمة منه”( الشريعة للآجري 4/ 2001).

ومع إنه خرج في ميمنة أبيه يوم الجمل إلا أنه كان يكره القتال، ويشير على أبيه بتركه.

وكان يقول له حتى قبل الخروج من المدينة المنورة: “يا أبت! دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم” وفي رواية أخرى: “أنه قال له: يا أبه، أو يا أمير المؤمنين، لو كنت في جحر وكان للعرب فيك حاجة لاستخرجوك من جحرك”. (الرياض النضرة في مناقب العشرة لمحب الدين الطبري 3/ 231)

وينبغي أن نشير هنا أن ميل الحسن ـ رضي الله عنه ـ إلى المسالمة وكراهيته لسفك الدماء لم يكن يمنعه من الوقوف إلى جانب الحق والدفاع عنه والجهاد في سبيله كما فعل جده المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس يخيل إليهم أن المسالمة تطلب الاستسلام للأمر الواقع والخنوع لها، وإفساح المجال أمام الباطل ليسرح ويمرح، والدليل على ذلك أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ لما رأى المنافقين قد حاصروا عثمان ـ رضي الله عنه ـ لقتله أسرع للدفاع عنه، وأصيب وهو يجاهدهم، ولولا أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أقسم عليه أن يكف لظل يجاهدهم حتى تم له ومن معه النصر عليهم أو لقي الله شهيدا.

وتحلّي الحسن ـ رضي الله عنه ـ بتلك المكارم جعل المسلمين جميعا يحبونه، وازداد حبهم له لما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله أن يحبه ويحب من يحبه، فقد جاء عن البراء بن عازب أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي على عاتقه وهو يقول: “اللهم إني أحبه فأحبه” وفي رواية أخرى عن أبي هريرة: “اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ” ( سنن ابن ماجه 1/ 51)

ولذلك ما إن بويع بالخلافة بعد مقتل أبيه حتى اجتمع الناس إليه فرآهم أمثال الجبال في الحديد، كلهم يهوى القتال معه فقال: “أضربُ بين هؤلاء وبين هؤلاء (يقصد أهل الشام) في ملك من ملك الدنيا لا حاجة لي فيه؟!!. (أمالي ابن بشران – الجزء الثاني ص: 150)

وأخذ يهذب من عاطفتهم، فقد جاءه قيس بن سعد، وكان أول المبايعين له فقال: “ابسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه، وقتال المحلين”؛ فرفض أن يقره على عبارة “وقتال المحلين”، وقال له ـ رضي الله عنه ـ : “على كتاب الله وسنة نبيه؛ فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط”.

ثم خطب في الناس فقال: “إن كل ما هو آت قريب، وإن أمر الله عز وجل لواقع، ما له من دافع، ولو كره الناس، وإني ما أحب أن ألي من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما يزن مثقال حبة من خردل، يهراق فيه محجمة من دم، قد عرفت ما ينفعني مما يضرني، فالحقوا بطيبتكم (يعني مأمنكم)”. الشريعة للآجري (5/ 2169)

وبعد ستة أشهر قضاها في خلافته، وحاول فيها أن يقتفي أثر الخلفاء الراشدين قبله ويقتدي بهم أحس أن كثيرا ممن حوله يدفعونه إلى قتال أهل الشام ليس نصرة للحق وإنما تعصبا له، وأن أهل الشام ما زالوا على رأيهم الذي اعتنقوه منذ أن قُتل عثمان رضي الله عنه؛ مما يعني أن الظروف مهيأة لإسالة كثير من الدماء؛ فآثر أن يتنازل عن الخلافة، ويجمع المسلمين على معاوية رضي الله عنه.

يقول صاحب كتاب عون المعبود: “وَسَارَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَة مِنْ الشَّام إِلَى الْعِرَاق، وَسَارَ هُوَ إِلَى مُعَاوِيَة، فَلَمَّا تَقَارَبَا رَأَى الْحَسَن ـ رَضِيَ الله عَنْهُ ـ الْفِتْنَة، وَأَنَّ الأمْر عَظِيم، تُرَاق فِيهِ الدِّمَاء، وَرَأَى اِخْتِلاف أَهْل الْعِرَاق، وَعَلِمَ الْحَسَن ـ رَضِيَ الله عَنْهُ ـ أَنَّهُ لَنْ تُغْلَب إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى يُقْتَل أَكْثَر الأخْرَى، فَأَرْسَلَ إِلَى مُعَاوِيَة يُسَلِّم لَهُ أَمْر الْخِلافَة”( الجامع الصحيح للسنن والمسانيد 22/ 458)

وقال لمن حوله: “وإني ناظر لكم كنظري لنفسي، وأرى رأيا فلا تردوا عليّ رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة” (الأخبار الطوال للدينوري ص: 217)

وبعد أن تم تنازله عن الخلافة جمع الناس وخطب فيهم قائلا: “أما بعد: أيها الناس إن الله هداكم بأوّلنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} إلى قوله: {ومتاع إلى حين}” ( البدء والتاريخ للمقدسي (5/ 237)

وكان ذلك في ربيع الأول أو الآخر سنة إحدى وأربعين، وتحققت فيه بذلك نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم: “ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين”. صحيح البخاري (4/ 205) و(سنن أبي داود ت الأرنؤوط 7/ 58)

والسيّد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معا، وأي سيادة أفضل من حقن دماء المسلمين الذكية؟!! وأي سيادة أفضل من جمع شمل الأمة.

ورغم أن تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة كان من أجل مصلحة المسلمين، وإيثارا لمصلحتهم العامة فإن المرجفين ما تركوه، وصار منهم من يؤنبه ويزعم أنه طلب الخلافة لنفسه فلم ينلها، وأنه يسعى لها بعد تنازله عنها، فقد جاء إليه جبير بن نفير، وقال له: إن الناس يقولون: إنك تريد الخلافة فقال: “قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت، ويسالمون من سالمت، تركتها ابتغاء وجه الله تعالى، وحقن دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم”. (المستدرك على الصحيحين للحاكم 3/ 186)

ومنهم من يعيره بالجبن لتنازله عنها وهي حق له، فقد جاء في كتاب “الاستيعاب” لابن عبد البر أن بعض الناس قالوا له لما تنازل عن الخلافة: يا عار المؤمنين، فقال لهم: “العار خير من النار”( الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/ 386)

بل إن بغاة الفتنة سعوا لقتله حتى تظل الحرب بين المسلمين مشتعلة، وما إن سمعوه يتكلم في أمر الصلح حتى قال بعضهم: “كفر الحسن كما كفر أبوه من قبله” وشد عليه نفر منهم، فانتزعوا مصلاه من تحته، وانتهبوا ثيابه حتى انتزعوا مطرفه عن عاتقه، لولا أنه نادى: “أين ربيعة وهمدان؟” فتبادروا إليه، ودفعوهم عنه، ثم ارتحل يريد المدائن، فكمن له رجل منهم يسمى الجراح بن قبيصة من بني أسد بمظلم ساباط، فلما حاذاه قام إليه بحديدة في يده فطعنه في فخذه… ( الأخبار الطوال ص: 217)

وبعد أن استتب الأمر لمعاوية حاول بعضهم أن يدفعه إلى الخروج عليه دفعا، لكنه ما استجاب لهم، وما نجح أحد منهم في إغوائه، فقد جاء في المعجم الكبير للطبراني عن يزيد بن الأصم قال: خرجت مع الحسن وجارية تحِتُّ شيئا من الحناء عن أظفاره فجاءته إضبارة من كتب فقال: يا جارية هاتي المخضب فصب فيه ماء، وألقى الكتب في الماء، فلم يفتح منها شيئا، ولم ينظر إليه، فقلت: يا أبا محمد ممن هذه الكتب؟ قال: من أهل العراق، من قوم لا يرجعون إلى حق، ولا يقصرون عن باطل، أما إني لست أخشاهم على نفسي، ولكني أخشاهم على ذلك، وأشار إلى الحسين. (المعجم الكبير للطبراني 3/ 70)

ولم يكن حال الحسن ـ رضي الله عنه ـ بعد تنازله عن الخلافة بعيدا عن الناس ومشاكلهم وقضايهم، وإنما صار مهتما بأمور المسلمين يسعى لقضاء مصالحهم وحل مشاكلهم، وكان إذا قدم عليه وفد بالمدينة سأله عن حال أميره وعن بلده، وحتى عن مواشيه.

وسعى ـ رضي الله عنه ـ في بقاء وحدة المسلمين، وتصدى للمغالين الذين كانوا يحاولون استغلال عاطفة حب الناس لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الأفكار المضللة، يقول عمرو بن الأصم: دَخَلْتُ عَلَى الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى ـ عَنْهُمَا وَهُوَ فِي دَارِ عَمْرِو بن حُرَيْثٍ، فَقُلْتُ: “إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ـ يَرْجِعُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ” فَضَحِكَ، وَقَالَ: “سُبْحَانَ اللهِ، لَوْ عَلِمْنَا ذَلِكَ مَا زَوَّجْنَا نِسَاءَهُ، وَلا سَاهَمْنَا مِيرَاثَهُ”. (الكامل في التاريخ لابن الأثير2/ 742)

وقال لبعض الذين زعموا أن عليا كان أولى بالخلافة ممن سبقه: “لو كان الأمر كما تقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار عليا لهذا الأمر والقيام على الناس بعده – كان عليّ أعظم الناس جرما وخطيئة، إذ ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم به، ويُعذر إلى الناس”. (سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي لعبد الملك المعصمي2/ 341)

ورد على من زعموا أن عليا رضي بقتل عثمان ـ رضي الله عنهما ـ بقوله: “رحت إلى الدار، وغدوت إليها شهرا، وعثمان ـ رضي الله عنه ـ محصور(أي للدفاع عن عنه) كل ذلك بعين علي ـ رضي الله عنه ـ ما نهاني يوما قط”.تاريخ المدينة لابن شبة (4/ 1213).

ورد على من حاول أن ينتقص من مكانة أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ بقوله: “نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر فقال: إني أحبكما، ومن أحببته أحبه الله أشد حبا مني، وإن الملائكة لتحبكما بحب الله إياكما، أحب الله من أحبكما، وأبغض من أبغضكما، ووصل من وصلكما، وقطع من قطعكما”. (الحسام المسلول على منتقصي أصحاب الرسول لمحمد بن عمر الحضرمي : ص: 70).

وأبقى رضي الله عنه صلته بالعامة موصولة، يفتح لهم داره، ويسعى في قضاء مصالحهم، حتى قيل: إن رجلا رفع إليه ذات يوم رقعة، فقال له: “حاجتك مقضية”، فقيل له: يا ابن رسول الله لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذلك، فقال: “يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته”.

وجاء في كتاب الزهد لابن المبارك أن رجلا جاء إلى حسين بن علي، فاستعان به على حاجة، فوجده معتكفا، فقال: لولا اعتكافي لخرجت معك، فقضيت حاجتك، فخرج الرجل من عنده، فأتى الحسن بن علي، فذكر له حاجته، فخرج معه لحاجته، فقال: أما إني قد كرهت أن أعينك في حاجتي، ولقد بدأت بحسين فقال: لولا اعتكافي لخرجت معك، فقال الحسن: “لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إلي من اعتكاف شهر”. (الزهد والرقائق لابن المبارك 1/ 258)

ورغم كل ما قدمه الحسن لنفسه من خير عند الله إلا أنه كان شديد الوجل من لقاء ربه، حتى روي أنه لما ثقل عليه المرض دخل عليه أخوه الحسين بن علي فقال: “يا أخي لأي شيء تجزع؟! تقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي بن أبي طالب وهما أبواك، وعلى خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وهما أماك، وعلى حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وهما عماك”، فقال: “أخي إني أقدم على أمر لم أقدم على مثله”. (تاريخ ابن معين 3/ 506)

وبعد حياة قصيرة مليئة بفعل الخيرات لحق الحسن ـ رضي الله عنه ـ بربه فتوفي سنة تسع وأربعين وقيل سنة خمسين في ربيع الأول، وهو ابن ست وأربعين أو سبع وأربعين سنة، ودُفن بالبقيع بجوار أمه فاطمة ـ رضي الله عنها وأرضاها.

واجتمع الناس عليه بعد مماته مشيعين له كما اجتمعوا عليه في حياته، يقول ثعلبة بن أبي مالك: “شهدنا الحسن بن علي يوم مات، ودفناه بالبقيع، ولو طرحت إبرة ما وقعت إلا على رأس إنسان”. (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان لسبط ابن الجوزي 7/ 132)

وأخيرا فهل سيكون في أمتنا الآن من يؤثر المصلحة العامة على مصلحته الخاصة كما فعل الحسن ؟! وهل سيكون فيها من هو على استعداد لأن يضحي بماله ومجده في سبيل أن يحقن دماء المسلمين؟!! وهل سيكون فيها من يترفع على شهواته وتحريض الغير في سبيل أن تعيد أمتنا وحدتها؟!

نعم قد نجد مثل ذلك الرجل -وما ذلك على الله بعزيز- بشرط أن نربي أبناءنا على مثل التربية التي ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن ـ رضي الله عنه ـ تربية سوية، ليس فيها غلظة، ليس فيها شدة، وفي نفس الوقت ليس فيها تساهل يسمح للطفل بالوقوع في الخطأ ويُتغافل عن توجيهه.

وعندما نغرس في أولادنا إيثار الآخرة على الأولى، ونغرس فيهم الوازع الداخلي الذي يجعلهم في المستقبل يتركون الحرام دون أن يجبرهم على تركه أحد، ويقبلون على الخير دون أن يجبرهم على فعله أحد.



الكاتب أحمد عبدالحميد عبدالحق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى