الرحمة والتراحم في زمن المادية
تبدو الرحمة غريبة في ظل الحياة المادية الحديثة، المدن التي بلا قلب أصبحت عدوى انتقلت إلى القرى والصحاري، لكن القسوة تنبع أساسا من النفوس، وهي تتوسع، ويبدو أن نمط الحياة الحديثة سبب رئيسي في تآكل الرحمة، التي باتت لا تُبذل إلا بمقابل، أو تنفيذا لنصوص تعاقدية.
والحقيقة أن نمط الحياة السريع، والاقتصاد التنافسي، واقتران السعادة بالاستهلاك واللذة، عمق الفردية بصورتها القاسية، حتى أصبحت الرحمة التي تبُذل لذاتها مجالا للتعجب، بل عرضة للسخرية، وتعرضت الرحمة لاقصاء ممنهج من الحياة الحديثة، حتى الابتسامات وملامح التعاطف والتراحم أخذت في التلاشي، ويبدو أن السبب يعود إلى تمكن المادية وتوغلها في النفس وأنماط التفكير، حتى باتت الرحمة لا تحضر إلا في إطار المنفعة .
لكن كثيرا ممن تحدثوا عن الرحمة وهم على أرضية مادية نظروا لها باعتبارها امتدادا لنظرية دارون في التطور، فالرحمة سلوك قادم من الحيوان، أو من خلال أو فلسفة “جيرمي بنثام” Jeremy Bentham القائمة على المنفعة، إذ تسعى المادية لتفكيك الرحمة وعزلها عن مكونها وجذرها الديني، وفي تلك الحالة تصبح الرحمة سلوكا انتقائيا وليس حقا إنسانيا.
المادية هي المشكلة
الحقيقة ان تقلص مساحات الرحمة، يرجع إلى تعمق فكرة المادية وتغلغلها في تفكير ووجدان الإنسان المعاصر الذي بات قلبه وكأنه قطع من صخر، في رواية “هيا نشتري شاعرا” للأديب البرتغالي أفونسو كروش “Afonso Cruz” تشريح ذكي للمجتمع المادي الذي تتبخر فيه الإنسانية والتعاطف والتراحم داخل وجدان وسلوكيات ذلك الإنسان الحداثي البرجماتي، الذي باتت المادية مثل نظارة سمكية ملونة تصبغ الحياة بلونها ومفرادتها اللغوية وسلوكياتها، فأبطال الرواية يعيشون حياتهم وفق معدلات شديدة الدقة في الاستهلاك، حتى العاطفة سعوا لقياسها بنسبة مئوية خالية من أي عاطفة، حتى تربية الأب لأبنائه يضع في مخيلتهم أن غايتها “الازدهار التنمية” التي أصبحت تحيتهم بدلا من كلمات التحية المفعمة بالسلام والخير، تصبح الحياة لغة أرقام داخل البيت والوجدان، وتنظر تلك الأسرة المادية إلى العواطف الإنسانية على أنها عديمة النفع، لتحدث الأزمة مع رغبة الابنة في شراء شاعر، والذي وافقت الأسرة على شرائه لأنه غير مكلف مثل الرسام أو النحات، غير أن الشاعر عنندما يدخل في حياة تلك الأسرة يزلزل قناعتها، فهو يغترف من قاموس غير قاموس المادية، طارحا معان أخرى للسعادة والعاطفة .
ويلاحظ في كثير من الأحيان أن الجانب الروحي تتخفى ورائه المادية، فأصبح الشخص يسعى ليستفيد من تلك الروحانية استفادة خاصة، في كتاب “العالم المادي“[i] لـ”جيرسي سكوت” Grace Scott تكشف عن دور الإعلان ووسائل الاعلام في تغذية الشعور الإنساني بالمادية، من خلال ربط السعادة بالمال، أو خلق أوهام بأن السعادة يمكن أن تشترى، هذه الفكرة خلقت هوسا بالاستهلاك، وصرفت الإنسان عن التفتيش في ذاته عن مكامن الخير والرحمة، فكان لتلك المادية تأثيرات مرعبة، وهو ما يفرض التعافي من تلك المادية المتغلغلة في النفس، والابتعاد عن مقايسها وتفضيلاتها.
وقد اهتم الفيلسوف البولندي “زيجمونت باومان” بنقد التأثيرات المادية الطاغية للحداثة في كثير من كتبه، فتحدث “الأرواح المهدرة” للمنبوذين والمهاجرين[ii]، التي غابت الرحمة في التعامل معهم من المجتمعات الغنية الموفورة الثروة، حتى إنه أطلق على هؤلاء مصطلح “النفايات البشرية” بعدما انتزعت عنهم إنسانيتهم بلا رحمة، فالحرمان يظلل بأجنحته السوداء على كثير من المجتمعات، وينهش في الجميع، في المقابل هناك بزخ مخيف يصل إلى رمي آلاف الأطنان من القمح في المحيط للمحافظة على أسعاره المرتفعة..
التراحم ضرورة
أخذت المجتمعات الحديث تذوق الآثار الجانبية لغياب التراحم، بعدما تفشت القسوة، وأصبحت شعارا ومنهج حياة، فالإنسان ليس صنما، ولكنه ينفعل ويتأثر، ولمسات الرحمة تحيي ما عطب من روحه المتعبة المثقلة بالهموم والأعباء، في مقال بعنوان العقل الرحيم ذكرت “إيمالا سيبالا” Emma Seppala أن الرحمة هي التي دفعت أكثر من 26% للتطوع عام 2012 لتقديم المساعدة لغيرهم، خاصة من المشردين، وحتى للقطط الضالة، وتساءلت هل الرحمة فطرية أم مكتسبة؟ أي أن الرحماء مفرطون على ذلك، أم أن المجتمعات هي التي يتعلم منها أبناؤها الرحمة؟ وأشارت أن هناك أدلة متزايدة على أن الرحمة فطرية إلى جانب كونها مكتسبة، فالحيونات تعرف فيما بينها التراحم والتعاطف، وتحدث بعض العلماء مثل البرفيسور ” داتشر كيلتنر” Dacher Keltner عن “غريزة التعاطف”، والتي تعد استجابة طبيعية وتلقائية تضمن بقاء الإنسان والمجتمع، وأجريت دراسات على بعض الحيونات دعمت هذه الفكرة، وهي أن الإنسان يُخلق وبه غريزة تراحم وتعاطف، وبعيدا عن المادية فإن مساعدته للآخرين بلا مقابل يجد فيها جزاء ومكافأة غير مادية.
وقدم عالم الأحياء “فرانس دي وال” Frans de Waal أبحاثا وكتبا مهمة في هذا الجانب، لكن الرجل رغم قوة أعماله، والجهد الكبير فيها، إلا أنها يؤكد أن التراحم غريزة متطورة قادمة من عالم الحيوان، وبالتالي يناقشها على أرضية التطور، وهي تفصل التراحم عن عمقه الروحي والوجداني، ولاشك أن ذلك يقزم التراحم، ويتجلى ذلك في كتابه ” عصر التعاطف “[iii] فيقول ” الحيوانات والبشر مبرمجة مسبقًا للتواصل، لقد وجد أن الشمبانزي يعتني بزملائه الذين أصيبوا بجروح من الفهود، والأفيال تقدم “قرقرة مطمئنة” للصغار الذين يعانون من ضائقة، والدلافين تدعم رفاقها المرضى بالقرب من سطح الماء لمنعهم من الغرق، ومنذ اليوم الأول لدى البشر حساسيات فطرية تجاه الوجوه والأجساد والأصوات، لقد صممنا لنشعر تجاه بعضنا البعض”.
أما كتابه ” البونوبو والملحد “[iv] فيقول بشكل واضح بأن الأخلاق البشرية ليست مفروضة من أعلى بل تأتي من الداخل، فالسلوك الأخلاقي لا يبدأ وينتهي بالدين ولكنه في الحقيقة نتاج تطور، فالحيوان لا يتعاطف ولا يتراحم بدافع ديني، ولكن انطلاقا من ذاته، وبذلك الاتجاه المادي يسعى “فرانس دي وال” أن ينحي الدين عن الإجابة عن ذلك القلق الوجودي للإنسان، ويضلله عن طريق الوصول إلى ربه، ولا شك أن التحدى الأكبر للإلحاد هو سؤال الأخلاق، إذ أن الأخلاق تستند جذورها على الدين، والإلحاد يريد أن يبرر الأخلاق ومنها الرحمة بأنها ليست نتاجا للدين، وليست استجابة لمطلب ديني وإيماني، بل الرحمة صفة بيولوجية.
وفي مقالة بعنوان 20 سببًا لماذا التراحم” تأكيد أن التراحم ضرورة إنسانية، وغيابه سيغيب بطولات وأعمال خيرية عظيمة في تاريخ الإنسان، والأبحاث التجريبية تثبت أهمية التراحم، خاصة للمرضى، وظهر ما عرف بـ”علم النفس الايجابي” الذي تأسس على فكرة أن “الناس يريدون أن يعيشوا حياة ذات مغزى ومعنى، وأن يزرعوا ما هو أفضل داخل أنفسهم ” وفي دراسات على مدار أربعة عشر عاما انتهت 2013، عبر أكثر من (770) دراسة في 46 دولة، أشارت أن الرفاهية كان الموضوع الأكثر انتشارا، وأن الكثير من الدراسات أكدت أن التعاطف والتراحم تنبئ بزيادة الرفاهية، وفي دراسة أخرى استمرت 17 عامًا لمرضى فيروس نقص المناعة البشرية، وجد الباحثون أن إعطاء المزيد من الحب والرحمة، كان سببا في تحسن هؤلاء المرضى، فالرحمة هي جوهر الطب والتمريض.
[i] عنوان الكتاب The Materialistic World: How to Escape Materialism, Theory of Materialism, Mindful Living, Living with True Happiness
[ii] يمكن مراجعة كتاب “حياة ضائعة: الحداثة ومنبوذوها” Wasted Lives: Modernity and Its Outcasts
[iii] The Age of Empathy: Nature’s Lessons for a Kinder Society
[iv] The Bonobo and the Atheist: In Search of Humanity Among Primates
الكاتب مصطفى عاشور